نموذج المفكر الراقي.. نموذج الفكر النشط

سمير الحباشنة

الدكتور عبد الحسين شعبان صديق كبير لي، لذا فإن شهادتي به سوف تحمل بعض الانحياز، مع تأكيدي بأنه انحياز موضوعي ومحاولة لإعطاء الرجل حقه في عالم الفكر والمعرفة، ذلك العالم الذي يحلق به منذ عقود، حتى طاول مكانة أرفع المفكرين المعاصرين، على الصعيدين العربي والإنساني.

إن ميزة فكر عبد الحسين شعبان بأنه فكر تتماهى به العناوين النظرية مع إمكانات تطبيقها وتحقّقها واستجابتها لمتطلبات الواقع العربي، فهو فكر حي نشط متحرّك له أرجل وأيدٍ، فكر لديه قابلية لأن تتولد منه اشتقاقات عملية، قادرة على الارتقاء بالحالة العربية، من حال إلى حال أرقى وأفضل، على المستويين القومي والقطري سواء بسواء.

عرفت الرجل منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، وطوال تلك الفترة وحتى الآن ونحن في حالة من الاشتباك الفكري والسياسي الحميد. وأستطيع القول ومن تجربتي تلك، فإن فكر شعبان يمتلك أساسات مبدئيّة ثابتة وقويّة، إلّا أنه، وفي ذات الوقت، فكر متجدّد ومتطوّر، لم يتوقف عند مرحلة سياسية ماضوية أو فكرية ما، مثل الكثيرين من المفكرين والسياسيين المعاصرين، الذين توقفت حياتهم عند مرحلة تاريخية معينة، سمتها الانحياز الأعمى إلى مرحلة يمثلها رجل ما أو تنظيم سياسي بعينه. وبالتالي فإن كل واحد من هؤلاء حبس نفسه طوعاً داخل “صَدَفة”، صدفة بلا أوكسيجين، حيث توقف العالم لديه وأصبح “أسير الصَدَفة هذه”، لا يرى ولا يسمع شيئاً من يوميات الحياة الراهنة، مثله مثل سجين وضع بالانفرادي منذ عقود طويلة، فانقطع عن العالم تماماً، ولا يزال في زنزانته يعيش ذكريات الماضي بكل تفاصيلها وكأنها هي الحاضر!! ﻓ”أسير الصدفة” ليس له حاضر، وبالتالي فإن مساهمته باستشراف المستقبل تكون معدومة.

وفي ذات السياق فإن الدكتور شعبان يتميّز عن الكثير من السياسيين، ممن انتموا إلى الحركة القومية أو اليسارية أو الإسلامية بتفرعاتها المتعدّدة، هؤلاء مازالوا في جدل بيزنطي لا ينتهي..! كل واحد منهم متمترس في بقعه معينة، يدافع عن مرحلته التليدة، مع أن تلك المرحلة السياسية قد انتهت فعلياً “بعُجَرها وبُجَرها”، ورموزها جميعهم في ذمة الله، وهي الآن ملك للباحثين ليتوغلوا فيها ويتمعّنوا بتفاصيلها، عسى أن يقدّموا تقييماً موضوعياً تستفيد منه الأجيال القادمة لتتجنب النواقص والهنات وتستثمر الإيجابيات والنجاحات. وإن ميزة عبد الحسين شعبان عن هؤلاء أن أدواتهم للقياس قديمة، أما أدواته فهي معاصرة ومتجدّدة، تحاكي العصر ومتطلباته، تماماً مثل الفرق بين من يصرّ على الحصاد بالمنجل، في زمن التطور العلمي والآلات الحديثة.

مدرسة فكرية رشيقة

الدكتور شعبان من مدرسة فكرية رشيقة وعملية، تضع تلك المحطّات التاريخية وأنظمتها السياسية ورموزها في مكانها الطبيعي، وتعطيها قدرها الذي تستحقه، فهو يعاينها بفكر متّقد نقدي ثاقب وموضوعي، ليعطيها ما لها وما عليها من نجاح وإخفاق، بما يمتلكه من قدرة على رصد الفكر القومي واليساري، واللحظة الفارقة التي شهدت انحرافه أو تحريفه. وهذا ما يضع فكر الدكتور شعبان وكل من يحذو حذوه في مكانة مثمرة ومطلوبة بإلحاح، لإمكانية وضع معالجات بنّاءة للحالة العربية بهدف البناء عليها لمستقبل أفضل.

إن الدكتور شعبان ممن يؤمنون بالفكرة الأصل وسلامة مقاصدها دون التخلي عنها، لكنه يبحث عن إمكانيات جديدة لإحيائها لكي تصبح عملية وواقعية وقادرة على إحداث التغيير المنشود، وذلك وفق فهم دقيق للحظة الراهنة، وكذلك مراجعة أسباب إخفاق تلك الفكرة، والبحث عن سبل خروجها من مأزقها المركّب، الفكري والاقتصادي والاجتماعي المتراكم، عبر عقود مضت تفصلنا عن مرحلة الاستقلالات الوطنية للأقطار العربية.

هارموني الروحانية واليسار

كنت والدكتور عبد الحسين شعبان مؤخراً، ضمن وفد مجموعة السلام العربي بزيارة إلى النجف الأشرف على هامش مشاركة الوفد في ملتقى حول علاقة العرب بالأكراد، وضمّ الوفد د.مريم الصادق المهدي، وزيرة خارجية السودان سابقاً والأستاذ عاطف المغاوري، النائب في البرلمان المصري ونائب رئيس حزب التجمّع الوطني الوحدوي التقدّمي.

ومدينة النجف الأشرف هي الحاضنة الأولى للطفولة والتكوين الأولي لشخصية الدكتور شعبان، حيث وقفنا عند قبر جدّه الشيخ جابر شعبان، الذي يقع عند مدخل مرقد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد علمت من هذه الزيارة أن عائلة الدكتور شعبان تسلمت سدانة مرقد الإمام علي لأكثر من أربعمئة عام، ولَكم أن تتخيلوا المناخ الروحي المرهف الذي ولد فيه صاحبنا وترعرع.

وإلى جانب تلك الحالة الروحية وبخط موازٍ فإن “النجف” في فترة الخمسينيات والستينيات كانت إحدى المراكز المهمة للحركة اليسارية، وبالتالي نشأ الرجل بين هاتين المتضادتين؛ الإيمان بأعلى درجاته وقدسية المكان وتراجيدية النجف وكربلاء، والفكر اليساري بفلسفته التي تقف على الجانب الآخر.

ومع ذلك فإن هاتين المتضادتين لم تخلقا تنازعاً في شخصية الدكتور شعبان، ولم يكن في طرف في مواجهة الطرف الآخر، وأخذ الدكتور شعبان من الأولى البعد الروحي للنجف الأشرف: الأخلاق الرفيعة والصدق والكياسة، حتى يبدو هذا الرجل بمسلكيته العادية، وكأنه قد تمّت تربيته وفق برنامج كومبيوتر محسوب “بالميللي على مقياس الأخلاق”، وأخذ من الأخرى أي الفكرة اليسارية، تفكيراً نشطاً نقدياً جدلياً، ليس الجدل بمعنى السفسطة، إنما الجدل الذي يقوم على إعادة الأشياء إلى أصلها، وبالتالي إعادة بنائها وفق ما يخدم اللحظة الراهنة ببعدها المستقبلي.

إنه شخص أخذ من محيطه أفضله، ولم يكن مآله في خضم هذا التضاد الفكري الحاد، أن ينحاز إلى جهة ويصبح عدواً أو رافضاً للجهة الأخرى. وهذه ميزة الدكتور شعبان، الذي حمل في روحه وسلوكه السمات الحميدة للإيمان إلى جانب عقل منفتح غير قابل للانغلاق.

إنها ثنائية الأخلاق إلى أقصى مداها إلى جانب الإبداع المتجدّد الذي لا يتوقف. وهكذا فإن خطوط اتصاله مع الآخر مفتوحة مهما تباينت القناعات، فتراه يتحدّث مع اليساريين ومع القوميين ومع رجال الدين بإيجابية، واحترام قناعات الآخر دون الاستهانة أو التجريح بها، بل السعي إلى تصويبها ما أمكن، من خلال البحث الدائم عن إمكانية إيجاد قواسم مشتركة معه.

البحث عن المشترك الإنساني

شعبان من الشخصيات التي تراكم نقاط اللقاء مع الآخر بغضّ النظر عن خلفيته أو حتى مدى تطرّفه، وتحاول بالمقابل إبعاد نقاط الخلاف أو تهميشها أو تأجيل البت فيها، كي لا تؤثر على مبدأ اللقاء وافتراش أرضية مشتركة للعمل.

وهذا ما ألمسه في مجموعة السلام العربي، فنحن مجموعة من الشخصيات “نساءً ورجالاً” جئنا من خلفيات فكرية متباينة، وأحياناً متعارضة، ومع ذلك فإن الدكتور شعبان من فريق يسعى إلى تغليب الهدف، وتحشيد القدرات لخدمته، دون أن تؤثر عليه الاختلافات البينية بين أعضاء المجموع، وكنا ومازلنا في مجموعة السلام العربي نسعى إلى بلورة مبادرات من شأنها حفز النُّخب العربية على أن تغادر صفوف المتفرجين، وتنخرط في ميدان العمل، وتحاول أن تضع كتفاً في محاولات حل إشكالياتنا في أقطارنا العربية التي ابتليت بالحروب والدمار، الأمر الذي فسح المجال لمشاريع إقليمية ودولية أن تتدخّل فيها لتزيد من عمق الأزمة وتصعّب من إمكانيات حلها.

إن مجموعة السلام العربي، والتي يُعتبر الدكتور شعبان من أبرز واضعي دليلها النظري وصياغة مبادراتها، إنما تسعى إلى إطفاء نيران تلك الحروب، وبث روح الإخاء والمصالحة محل روح الكراهية والعداء، تلك التي سادت في اليمن وسورية وليبيا والسودان والصومال وغيرها. والسعي لمحاولة لملمة أطراف معادلاتها السياسية المؤثرة، في كل بلد وفق مشروع وطني تشاركي يتّسع للجميع، ويعيد الأمن والسلام إلى هذه الأقطار، لتستأنف مسيرتها مع التقدم والتنمية، بحيث تشكل، وفي مرحلة لاحقة، مجموعة هذه المشاريع الوطنية، مشروعاً عربياً إنسانياً ديمقراطياً واحداً، يستطيع ملء الفراغ في الساحة العربية.

لقد أصبح الوطن العربي اليوم، ومع الأسف الشديد، مسرحاً للتنازع بين مشاريع إقليمية، فهناك مشروع إيراني وآخر تركي، وبالطبع فإن المشروع الأخطر هو المشروع التوسّعي الصهيوني المعادي، إضافة إلى مشاريع القوى العظمى مثل أمريكا وروسيا وغيرها، وهذه المشاريع تتصارع على امتداد وطننا، بعضها يطمع لقضم قطعة أرض من هذا الوطن أو سرقة مياهه أو احتلاله أو السيطرة على ثرواته، إما بالهيمنة العسكرية المباشرة أو الهيمنة الاقتصادية أو السيادية أو الثقافية، فالوطن العربي اليوم وجماهيره وقواه كلهم في صفوف المتفرجين، وإذا ما وصل الصراع بين هذه المشاريع الإقليمية والدولية إلى مستوى الاحتراب، فإن الدم الذي يسيل مع الأسف هو الدم العربي.

كنا كما ذكرت في بغداد في ملتقى علاقة العرب والأكراد، هذه العلاقة غير المستقرة، رغم ما تحتوي من صفحات تاريخية مشرقة، فإنها في واقعنا المعاصر علاقة متأزّمة مليئة بمحطات الاحتراب والشك، ما بين السلطة المركزية في بغداد وإقليم كردستان، وذات الحال علاقة الأكراد بالدولة السورية. وإن هذا الملتقى الذي صممه الدكتور شعبان، وإذا ما أخذ صفة الديمومة، قد يشكل واحدة من أدوات ترتيب علاقة العرب والأكراد، وإعادة الثقة بين الأمتين الشقيقتين التوءمين، ذلك أن الثقة هي الأساس في أي علاقة مرشحة لأن يُكتب لها النجاح.

النخب العراقية والعربية

لقد لمست في هذا الملتقى تلك المكانة الخاصة للدكتور شعبان في الحياة العراقية، وما يتمتّع به الرجل من احترام، سواءً في أوساط النخب العربية والكردية أو حتى الناس العاديين الذين قابلونا في شوارع بغداد والنجف وكربلاء، وبعضهم أناس لم يلتقوا الدكتور عبدالحسين شعبان، لكنهم قرؤوا له أو سمعوا عنه أو شاهدوه على المحطات التلفزيونية، وكان الجميع يشيدون بالرجل على أساس أنه من الأشخاص الذين يُراهَن عليهم لإعادة الألق والوحدة للشعب العراقي، وهو نفس الاحترام للدكتور شعبان في عمّان وبيروت والقاهرة وبقية أقطار الوطن العربي، فالرجل شخصية مطمئنة، وهو من طراز الشخصيات التي نحتاجها في حياتنا العربية، في هذا الزمن الصعب.

كتب الدكتور عبد الحسين شعبان ما يزيد على ثمانين كتاباً، وكان لي الشرف بالتعقيب على ثلاثة منها، فالقاسم المشترك في نتاجه الفكري، هو الانفتاح على الآخر ومحاولة الوصول معه إلى قواسم مشتركة، وإعلاء قيم حقوق الإنسان، وترسيخ الديمقراطية الحقيقية التي قوامها العدل والمساواة، وتعزيز المواطنة كأساس لنجاح الدولة واستمرارها وتقدمها، واحترام الأعراق والأديان والمذاهب والطوائف والاعتراف بها جميعاً، دون التدخل في تفاصيل معتقداتها أو التأثير فيها. كذلك أن تكون الكينونات الثقافية التي تعيش بين ظهرانينا مثل الأكراد والأمازيغ والسودانيين من غير العرب، هم على قدم المساواة، لا تمييز بينهم ولا عليهم.

إن التحدي الأكبر أمام الأمة العربية ونخبها، هو ما يحوز على جانب من المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الدكتور شعبان، هو تحويل الاختلاف إلى تنوّع بدلاً من عداء، فالاختلاف إذا ما اتّسم بالتعصّب يصبح سلبياً، وقد يقود إلى الكراهية والتمييز بين الناس وفقاً لدينهم أو عرقهم أو مناطقهم، وينجم عنه مناخ مساعد لكي يتحول إلى عنف وصراعات دموية.

وعلى الجانب الآخر فإن التنوع إيجابي، يحول الاختلافات إلى طاقة إيجابية في المجتمع، وينهي أي إمكانية للنزاعات بأشكالها. وانطلاقاً من هذا فإن عبد الحسين شعبان يدعو العرب إلى “ويستفاليا عربية”، وهم في أشدّ الحاجة إليها، ولعلّ بلادنا العربية، في أغلب أقطارها، تعيش بحالة شبيهة بتلك التي حصلت في أوروبا، والتي تم وضع حدّ لها بالاتفاق على صلح أو اتفاقية ويستفاليا، فأوقفت الحروب الطائفية الدموية، وأعلت من مكانة المواطنة واحترام العقائد وحق ممارسة الشعائر بحريّة، وهكذا نشأت القاعدة التي تأسست عليها النهضة الأوروبية.

وفي ختام هذه الورقة فإن ضيفنا هو من مدرسة تحاول إعادة توظيف الفكر وإحيائه ليحاكي مصلحة الناس، بوضع اليد على نبضهم، للتعرف على احتياجاتهم. وهذا ما أهّل الدكتور عبد الحسين شعبان لأن يضع مشتقات نظرية فعّالة في خدمة المجتمع العربي بأقطاره كافة. وللرجل تصوره لموضوع وحدة العرب، ليس تلك الوحدة التي تقوم على العواطف أو التي قامت في السابق على عجل وفق حسابات الربح والخسارة لهذا التنظيم أو ذاك، بل الوحدة التي تهدف إلى تحقيق مصلحة العرب جميعاً بعيداً عن هيمنة بلد عربي على آخر.

مدرسة جديدة

وبعد، فإن عبد الحسين شعبان يؤسس مدرسة فكرية قوامها المصالحة بين الأصالة والمعاصرة، وذات أبعاد إنسانية أساسها الديمقراطية وعناصرها التي ذكرناها، والاعتراف بالآخر وقبوله وتأسيس حالة عربية من شأنها تجسير أقطارنا بعضها ببعض، وتوظيف إمكانياتها لما فيه خير الجميع، وإبعاد عناصر الشك والتوجس بين العرب على قاعدة احترام خيارات كل شعب عربي داخل بلده. إن من شأن ذلك أن يبعد عنا شبح الوقوع مرة ثانية في إخفاقات المشاريع الوحدوية العربية السابقة.

أدعو للدكتور عبد الحسين شعبان بطول العمر والعطاء الدائم، ليبقى من حملة شعلة الفكر العربي البنّاء ليضيء القناديل التي يستفيد منها من يتسلّم المسؤولية في الوطن العربي.

وأشكر الأستاذة الشاعرة المرموقة سعاد الصباح على هذه المبادرة بتكريم شخصية فكرية تضيف للفكر العربي لبنات مثمرة، منوهاً بالبصمات الإبداعية المتميّزة للدكتورة الصباح في الأدب والشعر العربي، وهو ما نفخر به جميعاً.

مهندس ووزير داخلية ووزير ثقافة سابق

عمّان – المملكة الأردنية الهاشمية.

 

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours