أرادنا نسخة أفضل من أنفسنا

سنا شعبان

منذ أن كنت طفلةً، كان والدي دائماً ما يحثّني على القراءة، ومن خلالها علّمني الشجاعة والمغامرة والشِّعر والتاريخ والتعاطف والإلهام. توسّع افتتاننا بالكُتب مع مكتبتنا الكبيرة، وعندما كبرت أنا وأختي سوسن قليلاً، كان هناك درس علينا أن نتعلّمه مع كلّ كتاب جديد اقتنيناه، حيث تم التوصّل إلى اتفاق مع الوالد الذي أصبح بالنسبة لنا عبد الحسين شعبان أو د.شعبان كما هو معروف، مقابل كل كتاب اشتريناه كان من المفترض منّا أن نكتب ملخصاً عنه لنظهر لوالدي ما تعلّمناه منه أو ما استمتعنا به، أو ما لم يعجبنا فيه.

كان والدنا دائماً ما يتحدّانا لنكون نسخة أفضل من أنفسنا، وذلك بتعليمنا تحمّل المسؤولية وتقديم الاحترام والتعامل بدبلوماسيّة وإنسانيّة منذ الصغر. كان تعليمنا مهماً للغاية، وأوّل شيء أن نسعى جاهدين لفهْم الآخرين بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى؛ ومن وجهة نظرنا، لتنمية الشعور بالتعاطف والتضامن معهم، بما يمنحنا القوة وينمّي فينا الجانب الإنساني، وذلك عبر الاحترام المتبادل.

ولا يزال يلهمنا حتى اليوم، بقدرته الفائقة على السير في هذا الطريق الذي اختاره ومن خلال تأليف الكتب والتعليم والتعلّم المستمر، فعقله مازال يشعّ ويتدفّق، وقوّة ذاكرته أشبه بموسوعة تاريخيّة.

وفيما يلي سأتناول جوانب مختلفة من شخصية عبد الحسين شعبان، ليس باعتباره والدي وحسب، بل كمثقّف يفيض معرفة وإنسانية، عبر هذه الكلمات المختصرة:

كلمة عن الإصرار والانضباط: يتمتّع والدي بقوة كبيرة وانضباط عال، حيث يبدأ يوم عمله في تمام الساعة السابعة صباحاً، ويكتب حتى المساء. إصراره ومثابرته يغذّيان تركيزه، مما يتيح له الوصول إلى أهدافه وغاياته. فإذا كان غارقاً في أفكاره، فإنّه سيطلب منّي الانتظار بإشارة معيّنة من يده (أفهمها أنا وأختي أنَّ علينا عدم الكلام معه) حتى ينتهي، ثم ينظر إلينا بابتسامة أقرب إلى الاعتذار عن انتظارنا.

كلمة عن الفضول: دائماً ما يقوم بتغذية مخزون مفرداته في اللغة الإنجليزية بشكل ثابت، حيث يكرر الكلمة لعدّة أيام من أجل حفظها، ويستمتع بالتحدي المتمثل في تعلّم مصطلحات ونظريات وممارسات جديدة، ويطلب منّي باستمرار أن أختبره بذلك وأن أبقي عقله نشطاً باسترجاع ما اكتسبه من معلومات.

كلمة عن الصبر: عندما يكتب، يكون لديه دافع للتفاني فيما يعمل. إنه دقيق في بحثه، ولا يتسرّع في إصدار الأحكام بما توصّل إليه، بل يعود مرّات ومرّات للتأكد من دقّة المعلومات وصحّتها، أو في تدقيق قواعد الكتابة (اللغة). ويأخذ وقته للتأكد من صحّتها، ويقوم بالتعديلات والتصحيحات، حتى يصل إلى الكمال. كأب، أظهر دائماً حماساً للأبوة وللقيام بالأنشطة العائلية، وغرس الشعور بالبهجة والالتزام في الحياة الأسرية. لقد أظهر صبراً في توجيهنا ورعايتنا، مدركاً أن النمو والتطور يستغرقان وقتاً.

كلمة عن الصمود: واجه في عمله عدة عوائق وتعقيدات في الحصول على مراجع معينة، لكنه لم يستسلم. لقد بحث لأكثر من 30 عاماً لإكمال أحد أبحاثه، وفي حالة أخرى أمضى ربع قرن في إجراء المقابلات، وجمع الأبحاث بشكل مكثف لتجميع كتاب، حتى يحين الوقت المناسب لنشره. ومن خلال مرونته في الحياة، علّمنا أن نتعامل مع الفشل والتحديات بموقف إيجابي وحازم.

كلمة عن الإبداع: من الضروري أن يحافظ الكاتب على عقلية إبداعية. لذلك يتمتع والدي بإبداع منطقي، حيث يوظّفه في البحث عن حلول مبتكرة للمشكلات باستخدام أساليب منظمة وتفكير عملي، يتيح له هذا الإبداع المنطقي التعامل مع التحدّيات بشكل منهجي مع الاستمرار في الحفاظ على الأصالة.

كلمة عن الأخلاق: كتابات والدي متأثّرة بشدّة بأخلاقياته العالية، وهي التي توجهه في تصويره للشخصيات والموضوعات التي يستكشفها. وهو يعتقد أن الكتابة بنزاهة تعني معالجة القضايا المعقّدة بأمانة، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجهات النظر المتنوعة.

كلمة عن الثقة: تلعب الثقة دوراً أساسيّاً في عملية الكتابة لدى والدي، حيث يثق قراؤه به في تقديم روايات أصيلة ومقنعة، مدركين أنه يتعامل مع كل كتاب بتفان وإخلاص.

كلمة عن القيادة: يُظهر والدي روح القيادة من خلال التزامه الثابت بعمله وقدرته على إلهام وتوجيه الآخرين. سواء من خلال توجيه الطلاب كأستاذ في الجامعة الأكاديمية للّاعنف وحقوق الإنسان، أو من خلال اعتباره قدوةً عبر نهجه المنضبط، فهو يغرس في الآخرين أهمية المثابرة، وضرورة اعتماد المعايير الأخلاقية العالية والسعي لتحقيق التميّز. لقد أرشدني أنا وأختي، ليس فقط من خلال نصائحه واعتباره مثلاً يحتذى به، ولكن من خلال تمكيننا من أخذ زمام المبادرة واتخاذ قراراتنا الصائبة بأنفسنا. ويشجعنا نهجه على القيادة بنزاهة وثقة، مما يعكس قيمه ومبادئه.

كلمة عن التسامح: لقد علّمنا التسامح من خلال منهجه المنفتح على وجهات النظر المتنوّعة، وتعامله المحترم مع الأشخاص من خلفيات مختلفة. لقد شجعنا على احتضان الاختلافات والتعامل مع الصراعات بالتفاهم والرحمة. إن قدرته على الاستماع والتعلم والفهم تثبت إيمانه بأن التسامح يخلق الانسجام. وهناك العديد من كتبه تتناول مسألة التسامح.

كلمة عن التعاطف: بصفته كاتباً أكاديمياً يُعنى بشكل كبير بحقوق الإنسان، يُظهر والدي التعاطف من خلال الفهم العميق والتركيز على التعقيدات التي تواجه القضايا الاجتماعية والتجارب الفردية. وتعكس كتاباته احتراماً عميقاً لكرامة الإنسان والتزاماً بتسليط الضوء على الأصوات المهمشة، مما يتيح للقراء فهم هذه المواضيع المهمة بشكل عميق. لقد أظهر دائماً تفهماً لمشاعرنا ووجهات نظرنا واختلافاتنا. وشعرنا بالتقدير والتشجيع بفضل حُسن استماعه ودعمه الدائم لاستقلاليّتنا في اتخاذ قراراتنا.

كلمة عن القدرة على التكيّف: يُظهر والدي القدرة على التكيّف من خلال التنقل الفعال بين التغييرات والتحديات في عمله وحياته، سواء قام بتعديل أساليب بحثه أو تبنّي أفكار جديدة، فهو دائماً ما يحافظ على مرونته وانفتاحه، بما يضمن قدرته على الاستجابة للتطورات بشكل فعّال، مع الحفاظ على معاييره وأهدافه العالية.

في الختام، إن إصرار والدي وانضباطه وإبداعه وتعاطفه وأخلاقه وقدرته على التكيّف، ترسم بشكل دقيق أسلوب عمله وتفاعلاته الشخصيّة من خلال تجاربه الغنيّة في الحياة والعمل، ونضاله وتضحياته واهتمامه الحقيقي بالآخرين، ممّا يترك أثراً دائماً عليهم، فهو يُلهم منْ حوله ويكون قدوة ومثالاً يُحتذى به.

عبد الحسين شعبان بما يمتاز به من شجاعة لا يتردّد عن الاعتراف بأخطائه أمامنا، ويطلب منّا أن نعترف بأخطائنا حين تحدث، بما يُطهّر النفس ويفتح آفاقاً للتفاهم حتّى عند أعقد المشكلات.

—————–

  • ابنة المحتفى به – شاعرة وكاتبة – لندن/الرياض.

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours