المفكّر عبد الحسين شعبان.. نظرة شخصيّة

سرو قادر

قضايا ومواقف

ستّ قضايا ومواقف يمكنني التوقّف عندها في حفل التكريم المهيب، الذي تنظّمه الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح للمفكّر العربي الكبير الدكتور عبد الحسين شعبان، الذي عرَفْته منذ مطلع الثمانينيّات، حين كان مسؤولاً للإعلام في قاعدة ناوزنك – نوكان ومن ثمَّ في بشتاشان (كردستان).

أوّلهافكر شعبان النقدي التجديدي، فهو حتى مع التزامه الماركسي السابق، كان يحاول وضع مسافة بينه وبين الرأي الرسمي، سواء على الصعيد الفكري أو على الصعيد العملي – الممارساتي. وقد ساهمت تلك الاستقلاليّة الفكريّة في تكوين رؤية نقدية استشرافيّة للمسار النظري – الفكري من جهة، وللسياسة القائمة من جهة ثانية.

وكان له باعٌ طويل في تقديم قراءات جديدة للماركسيّة، خارج الأطر السائدة والمعروفة المتأثّرة بالمدرسة السوفييتيّة، وهو وإنْ ترك العمل الحزبي والتنظيمي، وابتعد عن العمل السياسي المباشر والروتيني، إلّا أنّه ظلَّ يعتزّ بيساريّته مع الانفتاح على المدارس الاجتماعيّة الأخرى، وقدّم اجتهادات جريئة ومعالجات موضوعيّة للقضايا المطروحة، ومنها القضيّة القوميّة، حيث كان أحد أبرز المبشّرين بفكرة حقّ تقرير المصير للشعب الكردي، تلك التي عكسها على وثائق المعارضة العراقيّة التي كتبها في التسعينيّات من القرن الماضي.

وثانيها دوره في حركة المعارضة العراقيّة، حيث كان أميناً عامّاً للسرِّ في المؤتمر الوطني العراقي INC، وساهم بشكل مباشر في تجميع المعارضة، لكنّه تميَّز عنها بموقفه المناوئ للحصار الدولي المفروض على الشعب العراقي، وفي العلاقة مع القوى الخارجيّة، وحين لم تنسجم رؤيته مع الاتجاه السائد، قدّم استقالته، وظلَّ معارضاً على طريقته، وهو ما كان يلقى احترام وتقدير الآخرين. وحتّى حين اختلف مع قيادة الحزب الشيوعي تعامل مع الأمر من باب الاجتهاد الفكري ومن زاوية اختلاف الرؤى والتصوّرات.

وثالثها دفاعه عن حقوق الإنسان، وقد ساهم في رفع لواء هذه القضية في التسعينيات، حتى أصبح أبرز روّادها في العراق والعالم العربي، ولهذا مُنح في القاهرة وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي 2003. وقد ظلَّ مخلصاً لهذه القضية وساهم في تدريب وتأهيل العشرات والمئات، سواء في كردستان بعد العام 1991 أو في عموم العراق بعد العام 2003، كما تتلمذ على يديه أكثر من جيل، وتشبّعوا بالكثير من الآراء والأفكار التي حملها، كمثقّف حقوقي وعضوي يربط النظريّة بالتطبيق. وقد كان حتى أيّام انخراطه في العمل اليساري ناقداً لبعض توجّهات البلدان الاشتراكية، إزاء مسألة حقوق الإنسان.

ورابعها علاقته المتميّزة بالحركة الكردية، فهو من الشخصيات العربية البارزة التي لا تزال على قيد الحياة، والتي التقت الزعيم الخالد الملّا مصطفى البارزاني 1970، وكان وفياً لصداقته مع الشعب الكردي ومدافعاً عن حقوقه، وقد نظّم أوّل حوار عربيكردي في العام 1992 ودعَمَ وساندَ تأسيس “جمعية الصداقة الكردية العربيّة” التي أسسها ونشط فيها صلاح بدر الدين ود.شيرزاد النجار وعشرات من القيادات الكرديّة الوطنيّة، ولذلك استحقَّ وسام الصداقة العربيّةالكرديّة (2004) في أربيل، ويعتبره الكرد الصديق الثابت لهم والمؤمن بقضيّتهم، ويقدّرون مواقفه كعربيّ يعتزّ بعروبته، مثل موقفه المبدئي من القضيّة الفلسطينيّة، لكنّه في الوقت نفسه ينتصر للشعب الكردي المحروم من حقوقه ليس في العراق فحسب، بل في تركيا وإيران وسورية، ولعموم قضايا المضطهدين.

ومثلما يدعو إلى وحدة الأمّة العربيّة، فهو يدعو إلى وحدة الأمّة الكرديّة، باعتبارهما حركتين تحرّريّتين لابدّ لهما من التحالف ضدّ عدوّهما المشترك، وعلى أساس حقّ تقرير المصير. وقد عمل في المحافل العربيّة والدوليّة على استصدار العديد من القرارات لصالح الشعب الكردي في مؤتمرات دوليّة وعربيّة وإقليميّة.

المفكّر شعبان مصدر احترام من جانب جميع القيادات الكرديّة التي تعتزّ بعلاقتها معه، لأنّه نصير حقيقيّ بعيداً عن المصالح الخاصة، فهو صديق في جميع الظروف في السرّاء والضرّاء، يعمل وبكلّ أريحيّة إيماناً منه بقِيَم حقوق الإنسان وبحقّ الأمم والشعوب في تقرير مصيرها. وقد عمل خلال فترات الاحتراب الكردي – الكردي على رأْب الصّدع، وخاطب الفريقين داعياً للحوار وحلّ الخلافات سلميّاً.

خامسها امتياز شعبان بالتواصل مع الآخر، سواء على المستوى الشخصي أو العام، فهو شخص يؤمِن بقيَم الصداقة ويدافع عنها، ولذلك تراه المبادر في التواصل مع الحفاظ على مسافة واضحة بما فيها الحقّ في الاختلاف، في إطار القيَم التي يؤمن بها وهي التنوّع والتعدّدية والتسامح والسلام واللّاعنف.

وعلى الرغم ممّا تعرّض له في حياته السياسيّة والثقافيّة من حرمان واضطهاد وتشريد، لكن ذلك لم يؤثّر على علاقته مع شخصيات كان لها أدوار في ذلك، مشيراً إلى أن تغيير الظروف يستوجب تغيّر المواقف، انطلاقاً من قاعدة يردّدها “تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان”. وانطلاقاً من هذه النظرة كانت علاقته طيّبة مع العديد من الفرقاء، وحاول إصلاح ذات البيْن أحياناً على المستوى الشخصي أو في الصراعات السياسيّة، خصوصاً حين قرّر منذ من عقود من الزمن تجنّب الانخراط المباشر في السياسة، وإنّما ممارسة السياسة بوسائل ثقافيّة وفكريّة، حيث عمل على تقديم رؤية فكريّة جديدة وخطاب جديد، لخلق وعي جديد، ودائماً ما كان يدعو إلى خلق هذا الوعي ليشمل الدولة العراقيّة، والذي ينبغي أن يتبلور بصيغ قانونية، تأخذ مبادئ المواطنة بنظر الاعتبار لتكون بالصدارة بأركانها الأساسية، والمقصود بذلك الحرّيات والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة في اتخاذ القرار. وهذا هو جوهر كتاباته بشأن الهُويّة وخصوصيّاتها وسُبل التعبير عنها وفقاً لقناعاته بالتعدّدية والتنوّع والحق في الاختلاف، وهو ما تناوله بالبحث والتدقيق في كتابه “الهويّة والمواطنةالبدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة”.

سادسهامراجعاته المستمرّة للتجربة الفكريّة، وقد ظلَّ يكرّر: ألّا قيمة لتجربة إلّا بنقدها، وكان يمارس هذا الأمر بكل أريحيّة، مقدّماً نقداً ذاتيّاً شجاعاً لتجربته وإرثه وأفكاره، بالوقوف عند بعض جوانبها، مخطّئاً بعضها، ومشيراً إلى أنّ بعضها الآخر فَقَدَ مبرّراته، فضلاً عن أن العديد من التعاليم والآراء والأفكار تجاوزها الزمن، ومن ذلك الصراعات الحزبيّة، وهو ما توقّف عنده في كتابه “تحطيم المرايافي الماركسية والاختلاف”. وحسب وجهة نظره لا يمكن قياس صحّة وصواب أيّة فكرة أو أيديولوجيّة أو تعاليم فلسفيّة أو دينيّة إلّا بالتطبيق والممارسة، فلا غاية شريفة دون وسائل شريفة، وشرف الوسيلة من شرف الغاية، ولا يمكن تحقيق الغايات النبيلة بوسائل خسيسة.

مع التجربة الكردستانية

أختتم بالقول إذا كان الدكتور عبد الحسين شعبان معروفاً لديكم كأكاديميّ وكاتب ومفكّر عربي، فهو معروف لدينا كنخبة كرديّة أيضاً، بنشاطە الفكري والعملي لنشر ثقافة حقوق الإنسان والتعاون بين المكوّنات العراقيّة. لقد كان أيضاً مناصراً موثوقاً به لكلّ المكوّنات العراقيّة الأخرى، التي تعيش في كردستان وأجزاء أخرى من العراق. وقد شارك الحركة الثورية الكردستانية في جبال كردستان لفترة طويلة باعتباره مثقفاً كبیراً وداعماً لنضال الأمّة الكرديّة ضدّ الدكتاتوريّة والفاشيّة. وظلَّ على اتصال دائم بإقليم كردستان منذ ذلك الحين، يقدّم المقترحات والأفكار والمشاريع التي تنفع الشعب الكردي، والتي تقدّرها القيادات الكردية حقّ تقدير.

تأسّس إقليم كردستان في أواخر عام 1991 في ظلّ التدخلات الإقليمية والدولية، وكان بأمسِّ الحاجة إلى التواصل مع المجتمع العربي في العراق وبقية البلدان العربية والعالم بأجمعە. وكان عبد الحسين شعبان من الذين يزورون إقليم كردستان بانتظام، ويساعدون جامعاته ويُلقون المحاضرات، ويشاركون في الفاعليات والأنشطة الفكريّة والثقافيّة والإعلاميّة المختلفة، وكان لي شرف تنظيم بعض الندوات والمؤتمرات التي حضرها المئات من الأشخاص.

وهو من الشخصيات التي أثّرت في تطوير مبادئ حقوق الإنسان والتعاون بین المكوّنات العراقية. كما حاول إشراك المثقفين والأكاديميّين والسياسيّين الأكراد في مؤتمرات عربية ودولية في الخارج. وكان هو مَنْ اقترح تأسيس وزارة لحقوق الإنسان في كردستان، تلك التي أخذت بها القيادة الكرديّة، ووضَعَ أسبابها الموجبة وأهدافها ووسائل تحقيق تلك الأهداف ومديريّاتها وهيئاتها، والعلاقة بينها وبين المجتمع المدني.

ترجمة كردية لكتب شعبان

وقد تُرجمت كتابات الدكتور عبد الحسين شعبان، وبخاصة بعض كتبه إلى اللغة الكردية، منها كتاب “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلاميالثقافة والدولة”، ولأن كردستان قارئة للغة العربيّة أيضاً، فإنَّ كُتُبە موجودة في المكتبات وبیوت المثقفين. لذلك يمكن القول إنّ عبدالحسين شعبان ليس مناضلاً فحسب من أجل إنقاذ الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكردي بشكل خاص، في فترة غير طبيعيّة وظالمة، عاش العراق تحت وطأتها لنحو ثلاثة عقود من الزمن، ولكن أيضاً في خلق الثقافة المدنيّة والمعاصرة في كردستان، وفي هذا الصدد فهو شخص محبوب، وكلّما زار مدن كردستان تلتفّ حوله النخبة الكردستانيّة الأكثر شهرة وتأثيراً.

لعب الدكتور عبد الحسين شعبان دوراً مؤثّراً في خلق ثقافة التفاهم بين إقليم كردستان والحكومة العراقية كمثقّف، ويعمل باستمرار على تعزيز الجسر بين إقليم كردستان والحكومة العراقيّة، ويدرك الدكتور شعبان إشكالية الحكم في العراق منذ تأسيسه، من جرّاء عدم الاعتراف بحقوق الشعب الكردي، وازداد الأمر تعقيداً في ظلِّ الدكتاتوريّة والأنظمة المتعاقبة، وحتى مع الحصول على بعض الحقوق، فإن حالة حرب ضدّ الشعب الكردي ظلَّت قائمة، فقد تعرّض الكرد إلى عمليات تعريب وحرب إبادة وجرائم ضدّ الإنسانية، كما حصل في عمليات الأنفال وحلبجة في الثمانينيّات.

ويبدو أن الدكتور شعبان يفهم هذا الجرح الذي يعود إلى قرن من الزمان جيّداً، لذا فهو يحاول خلق ثقافة مفادها، أنّ هاتين الأُمّتين تستطيعان التغلب على التاريخ الدموي والمؤلم داخل دولة فيدراليّة، يتعاون فيها الشعبان كي يصبح العراق عراقاً اتحادياً متنوّعاً، يتمتّع الجميع فيه بمواطنة متكافئة ومتساوية، وهو ما حاول شرحه في مناظرته مع سيّد أحمد الحسني البغدادي في كتابه “دين العقل وفقه الواقع”.

دور المثقّف

لذلك أفهم دور المثقف المؤثّر في حياة مجتمعه، مثل شعبان، الذي يسعى إلى طرح الأسئلة وإثارة النقاش حول القضايا الإشكالية وتقديم رؤى وتصوّرات في البحث عن الحلول، وليس الجلوس في الصومعات أو المراكز الوظيفية، والتعالي على الهموم الشعبية، وهو ما يرفضه شعبان، لذلك عُدّ من أكثر المثقفين تأثيراً في العراق، عرباً وأكراداً، لا يبحث عن مغنم شخصي أو مكسب خاص، وإنما هدفه الخدمة العامة والإخلاص لمثله وقيمه.

وأخيراً، عندما أرى الدكتور عبد الحسين شعبان، أشعر دائماً بالفخر لمعرفتي به، التي تعود إلى ثمانينيّات القرن الماضي كما أشرت، عندما تحمّل الكثير من الألم والمعاناة إلى جانب البيشمركة في جبال قنديل في كردستان العراق.

تحية للجهة المنظمة لهذا التكريم المستَحق، ولاسيّما الدكتورة سعاد الصباح، وتمنياتنا بطول العمر للصديق د.شعبان، وإلى المزيد من التألّق والإبداع والصحّة.
———————————————-
مدير معهد الدراسات والتنمية – أربيل.

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours