الإنسان والمفكر

 

سعاد العلس

حين تمّ اختياري للكتابة عن هذا السامق، اجتاحتني ربكة البدايات الصعبة،التي لا تشبه كل البدايات، ماذا أكتب؟ ومن أين أبدأ؟ وخلافاً عن كل الكتابات،هذه تحديداً لا طرف يلوّح بنهايتها.

صدقاً الكتابة عنه مرهقة ومؤرقة، مرهقة في تتبع غزارة إنتاجه ونضاله علىكافة الأطر، ولاسيّما تلك المتعلّقة بحقوق الإنسان، هذا الباب الذي سُدّ بإحكامعن وعي وإصرار في وجه الإنسان، فكان شعبان هو اليد التي لا تكلّ عنالطَّرْق، علّ أحد الأبواب الصمّاء يُفتح ذات انفراج.

ومؤرقة من حيث الوقوف في وجه هذا الفيض في محاولة للسيطرة علىاتجاهاته، لذا آثرت الكتابة عنه من خلال تجربتي في العمل معه، من حيثاشتغاله بكتابة مقدمة كتابي عن الدور التنويري والوطني لنساء عدن.    

باذخ ذاك الوقت الذي قادني إليه لأعرض عليه فكرة كتابي «نساء عدن تنويروتحرير»، الذي كنت قد شرعت في إعداده عن دور المرأة في عدن إبانالاحتلال البريطاني (1839م /1967م) تنويراً وتحريراً، الدور الذي لم تسبقالكتابة عنه والتطرق إليه ونشره، فظلّ حبيس الذاكرة لكل من عاصر تلك الفترة،وبالتالي أسدلت ستائر العتمة على هذا التاريخ المتوهج. جملة من الصعوباتكانت تعترضني، منها عدم وجود وثائق أو كتب مرجعية لتوثيق دور المرأة، فكاناللجوء إلى المنهج الشفوي هو السبيل الذي سلكته في الكتابة من خلال لقاءاتيبالمناضلات أنفسهن وقياداتهن.  

وللولوج في هذا الخط الشائك، كان عليّ البحث عن رموز عاشت هذه الفترة،وصولاً إلى ما بعد مرحلة الاستقلال، التي شهدت فيه عدن انفتاحاً على التجربةالاشتراكية التي كانت تموج فيها آنئذ، وكان اسم د.عبد الحسين شعبان فيمقدمتهم، هذا الرجل (الكثير) والمهموم بالحق الإنساني المطلق.

استوقفني الاسم لكثرة ما تردّد أمامي من خلال ما شاهدت له من لقاءاتشتى، تراوحت بين اشتغاله على الكتابة عن رموز أدبية وسياسية واجتماعية،وأخص تحديداً لقاءات الضدّ، تلك التي تتطلّب سياسة النفس الطويل الذيتسِمَهُ، الأمر الذي يسترعي الانتباه إليه حين التحدث معه.

كان بالنسبة لي أمر غالى في صعوبته من حيث اقتناعي بالمجازفة بالتواصلمعه وعرض فكرة الكتاب واختيار من يكتب التقديم له، في وقت انطفأ فيه بريق(عدن) الحاضنة للتجربة الاشتراكية، أو كما أسماها الشاعر الكبير سعدييوسف »عاصمة الأمل العربي»، لكن فكرة الكتابة عن دور المرأة في التحريرمن الاستعمار البريطاني بحدّ ذاته أمر محفوف بالصعب، فليكن التواصل معد.شعبان فاتحته، و«فاز باللذة الجسور».

حين يكون الحديث عفوياً غير مكبل بقيود الديباجية وفواصل الضبط ونقاطالفصل، ولا يلوّح أحد طرفي الحديث بهراوات المنع أو كوابح الكلام تنسابالكلمات ببساطة وعذوبة مما يسهل إقصاء الصعب، هكذا كان الحديث معه منالمرة الأولى.

وجدت نفسي أتحدث إليه ببساطة عن صعوبات الكتابة في هذا الشأن فيوسطٍ خالٍ من أي توثيق أو دراسات تتعلق بتاريخ الثورة إجمالاً، ناهيك عن دورالمرأة في النضال الميداني في فترة اندلاع الثورة.. واتخاذي منهج التاريخالشفوي سبيلاً لتسجيل شهادة المناضلات.

من هذه النقطة تحديداً استيقظت أحلام هذا الثائر، الذي كان شاهداً علىقطوف النضال في دولة عربية اشتراكية استقطبت كل حركات التحرر العربية.

كان بصدق مشجعاً لي على مواصلة الكتابة، رغم العديد من الصعوبات التيواجهتها، لكن قبوله كتابة مقدمة الكتاب، أمدّني بقوة خارقة كي أضاعف همتيلأنتج كتاباً، هو المرجعية الأولى لتاريخ الكفاح النسوي ببصمة الثائر والحقوقيوالمفكر د.عبد الحسين شعبان على مقدمته.

كان حماسه لكتابة المقدمة قد جاء كجزء لا ينفصم عن اهتمامه بالدفاع عنالمرأة بالمطلق وصولاً إلى منحها حياة متساوية مع الرجل خالية من أشكالالنقص والتهميش.

 يملك د.شعبان مقدرة على جعل الأمور الصعبة أكثر مرونة واحتمالاً، وهذا مالمسته حينما أسررت إليه بمخاوفي في الكتابة بالأسلوب الأدبي الذي اعتدتالكتابة به، فأجابني: فليكن تجربة جديدة وخروجاً عن النمطية، وفوجئت بهيشير إلى ذلك في مطلع مقدمته للكتاب «بلغة أنيقة وقلم يسيل منه حبر الأديبتبدأ الكاتبة اليمنية سعاد العلس مشروعها البحثي.. إلخ»، وكأنما كانت هذهالعبارة بالنسبة له صكّاً يشرعن لي الكتابة بالتعبير غير المقيد بطبيعة الكتاب.

الصعوبة الأخرى التي كانت تؤرقني هي منهج الكتابة، هل سيتقبل القارئ أنيكون المرجع ذاكرة شفوية قابلة للمحو السريع؟ فإذا به يجيبني بوصفةالحوارات التي تمّت مع المناضلات «بالعمل البانورامي»، ووصفه الكتاب بأنه«أول بحث شامل وجاد لتاريخ الحركة النسائية بفسيفسائها الاجتماعيةوموزائيكتها الثقافية».

وأسمى هذا التاريخ النسوي «بالتاريخ المهمل أو المسكوت عنه والنظر إليهكجزء مكمل في أكثر الأحيان».

وهنا يبرز دور د.شعبان الحقوقي المدافع عن الحق الإنساني والمرأة فيصدارته، حيث تزدحم كتاباته ولقاءاته بالحديث عن الدفاع عن حق المرأةوحمايتها من العنف والتهميش، كل هذا وجدته في سطور ما خطّه في المقدمة.

ملمح آخر لم يغفلهوهو المعايش للتجربة الاشتراكية في جنوب اليمنهوإشادته «بقانون الأسرة والأحوال الشخصية»، الذي صدر في شهر يناير1974م، الهمّ الذي اشتغل عليه د.شعبان في معظم كتاباته ومطالباته بتحقيقه،وهو منح المساواة للمرأة عبر تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل في جميع مجالاتالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحمّل أعباء الحياة، ونفذ د.شعبانإلى عمق قانون الأسرة وتفصيلاته وأشاد به باعتباره من القوانين المتقدمةعربياً، حيث كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من أوائل الدول العربيةالتي وقّعت على الاتفاقية الدولية لإلغاء كافة أشكال التميّز ضد المرأة، وهيالمعروفة باتفاقية سيداو 1979م.

ولم يتوقف في تناوله لمزايا قانون الأسرة على النواحي الدستورية والقانونية، بلكشف أيضاً عن اتخاذه جوانب عملانية ومجتمعية من خلال المنظمات الشعبيةوالإدارية الحكومية.

حقاً تغلغل في تناوله لقانون الأسرة بكونه الحلم الذي أضحى سراباً اليوم، لكنالمتتبعَ للنشاط الكتابي والميداني الأكاديمي لـ د.شعبان سيجد أن للمرأةازدحاماً في أطروحاته، وخصوصاً تلك التي تحمل صبغة حقوقية وقانونيةونضالية، نجده يغرز قلمه في موطن الخلل في القانون، مستعرضاً آثارهالسلبية على البنية المجتمعية وعلى وضعية المرأة بدرجة أولى، ذلك الكائنالمزدحم بالشقاء الإنساني والكينونة بلا معنى.

لمست ذلك من خلال تحمّسه وتشجيعه لي لإكمال بحثي والكشف عن موقعالنساء في الحركة الوطنية عبر كتاب يحفظ هذا الدور الوطني كمرجع مكتوب،عوضاً عن حفظه في ذاكرة قابلة للنسيان.

كانت مقدمته للكتاب تحتوي على 10 صفحات، شملت كل نقطة تناولها بالطرحالمستفيض، لم يترك شاردة ولا واردة إلا وتناولها بالفحص والتمحيص، وهوالمعايش لفترة ما بعد الاستقلال، خلته لايزال هناك في عدن لم يبارحها، ومايزال يرعى الحلم العربي بسقيا حرفه المضيء.  

لم ينته دوره حدّ كتابة المقدمة، بل رافقني في يوم الإشهار 15 فبراير 2023مفي حضور افتراضي عبر برنامج زووم من بريطانيا، شارك فيه بإلقاء كلمةكانت فاتحة الإشهار، وهذه دلالة على اهتمامه بسيرورة الكتاب والبيئة المحيطةبحرفه شخصياً، والكشف عن دور لعبته المرأة في النضال الميداني، مطالبةبرحيل الاستعمار وتحقيق الاستقلال.  

وقد كان، صدقاً، عرساً ثقافياً، مازلت أختال بزهو نشوة نهايته حدّ اللحظة، وماظننته اختيالاً بفرح النهايات، ما كان إلا بدء مشروع ثقافي في مساراتيالقرائية بأبعاده المختلفة على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي، حيثحرص د.شعبان، مشكوراً، على إحاطتي بمقالاته ولقاءاته التي عززت منتوسيع قراءتي بموضوعات تهتم بانتشال المرأة من واقع متدنٍّ.    

 وأكثر ما يلفت النظر في أطروحاته، ربطها بقوانين وتشريعات وقرارات دوليةتسيّج النساء وتحميهن من الظلم والتعنيف والسبي كظاهرة جديدة جاءت علىظهر مستجدات ضاعفت من معاناة النساء، أفرد لها د.شعبان العديد منالمقالات والمحاضرات، كلها لا تخلو من الأمل بيوم تتحرر فيه المرأة من كافةأشكال الظلم، بيد أن صناعة القرارات والتشريعات المدنية التي تكفل للمرأةحياة كريمة جلّها صناعات دولية، بينها وبين بلداننا النامية فجوة يصعب ملؤهافي الوقت الراهن، حيث تشهد معظم البلاد العربية تدهوراً ملحوظاً لا يؤملتحسنه.

كنت قد قرأت في أحد مقالاته عن قانون الأحوال الشخصية في العراق(القانون 188 لعام 1959 في فترة حكم الرئيس عبدالكريم قاسم)، الذي ينصّعلى منح المرأة كافة الفرص المتساوية مع الرجل، وأنصف المرأة في تناولهلقضايا الزواج والطلاق والحضانة والإرث وتحديد سن الزواج بـ18 سنة، وبهذايكون القانون 188 متماشياً مع المادة الثانية في اتفاقية سيداو 1979م، كماأشار لذلك في مقاله الموسوم بـ»حقوق المرأة والخلاف في الجوهر».

وتجري اليوم محاولات لإلغائه أو تسويفه (القانون 188)، حيث تتعالى أصواتالمعارضين له، كما سقط قانون الأسرة اليمني بفعل التغيرات السياسية، وآلتبلداننا إلى وضع يؤسف عليه.

لا أجد أفضل من اختتام كلمتي عنه خيراً من قوله في خاتمة المقدمة: «إنالهدف من عرض صورة الماضي ليس استعادة تلك الصور بقدر ما هو تجاوزهاللحاضر تفكيراً بالمستقبل».

————

أديبة وكاتبة يمنية

 

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours