د. حامد الحمود

منذ أن تعرفت على الدكتور عبد الحسين شعبان، في مؤتمر عقد في بيروت عام2004، وتقديري وإعجابي بشخصه واتساع معارفه وثقافته يزداد. ومن حسنحظي أن اختار هذا الصديق مدينة بيروت ولبنان موطناً له. هذا بعد النشأة فيالنجف والدراسة في بغداد ثم اضطراره لتغيير موطنه، وليس مقر إقامته. ذلكأن الدكتور شعبان عندما يعيش في مدينة ومن علاقاته الإنسانية وشغفهوفضوله يحولها إلى وطن، فيألف المكان بل ويعرّف أهل المكان ببعضهم، هذا إنكان في براغ أو موسكو أو لندن أو برلين أو أربيل أو السليمانية.

واختياره لبيروت ليس مصادفة، وإنما خيار يجمع بين العاطفة والانتماء العربيوالثقافة والسياسة. وقصدي بالعاطفة الحنين إلى الذكريات، فعندما أمشي معهفي الشارع الرئيسي في بحمدون، يؤشر لي ثم يعرّفني بصاحب محلالخياطة. لكن وإن لم يخبرني بذلك، فإنه عندما يمشي في بحمدون يتذكروالدته ويتذكر والده، فكان والده الذي يأخذه إلى محل الخياطة هذا في أولالستينيات من القرن الماضي. وربما من أسباب تآلفنا وإعجابي به هو أننانتشارك بنوع من الانتماء العاطفي لبيروت ولبنان. فأنا أتردد عليها منذ طفولتي،كما أني تلقيت تعليمي الجامعي فيها.

عندما أقرأ أو أسمع عن لقاء يضم عراقيين وعرباً آخرين إن كان ذلك في مالموبالسويد أو في برلين أو بغداد أو بيروت أو القاهرة بالدكتور عبد الحسينشعبان أتساءل: ما هذا السر الذي يجذب هؤلاء له؟ هذا غير ثقافته الأدبيةوالسياسية وبلاغته. ما الذي يدفع هؤلاء وفي ظل ظروف هجرة صعبة أو مواطنةأصعب بالانتقال من مكان إلى آخر للقائه؟ أسأل وأجيب نفسي بأن عبدالحسين شعبان بالنسبة لهم هو ذلك الذي يجمع بين الثقافة والسياسة من جهة،وسمو الأخلاق والسجل السياسي الناصع البياض الذي افتقدناه أو نادراً ماوجدناه في مجتمعاتنا، إن كان ذلك في الكويت أو العراق أو لبنان أو مصر أوسورية أو باقي أقطار العالم العربي. فكنا دائماً نصبو ونأمل وربما نتوسللوجود شخصية تجمع تلك الصفات فيما بيننا. كثير منا نحن العرب عانينا منالعمل السياسي وتعرضنا للاضطهاد لندرة أمثال هذا الرجل بيننا، وهو ليسبغريب عن هذه التجربة، بل إنه من إنتاجها لذلك يفهمها، ولذلك نجد ضالتنافيه.

ومع مرور الزمن، يلتف العراقيون حوله أكثر، وأرى أحياناً أن وجودهم حولهيعكس حالة شكوى من حاضرهم، من موطنهم ومن منفاهم. وشكوى علىوطنهم الموجود والمسلوب بنفس الوقت، فيجدون في تجربته السياسية تجربتهمونضالهم في نضاله فهم يكملون الاثنين بلقائه. يجذبهم عبد الحسين باختلافمشاربهم السياسية وباختلاف طبقاتهم السياسية وباختلاف طوائفهموأعراقهم. فعبد الحسين لجميع العراقيين، حتى لمن عانى من اضطهادهم. فحضور عبد الحسين شعبان بين العراقيين يعيد المحبة بينهم ويعطيهم الأمل.

هذا الرجل لا يعطي أجوبة ولا يقدم حلولاً وإنما يثير تساؤلات توجه العقل إلىالمسارات المحتملة المقربة من الحقيقة المواربة والغامضة. فهو يرى «أن الحياةوالكون والطبيعة وكل ما حدث فيها من مدخلات ومخرجات.. وغموض المستقبلوصعوبة التكهن به والموت وما بعده، وحتى مع تقدم الثورة العلمية قضايا تشغلالإنسان وتزيد من قلقه»، ويرى أن طريق التقدم مازال وعراً يحتاج لبلوغه تعاونمشترك بين جميع قوى المجتمع. لذا فهو دائم الإشارة إلى قول المتنبي:

على قلق كأن الريح تحتي

أوجّهها جنوباً أو شمالا

وعندما طلب مني أن أكتب ما سيُضَمَّن في كتاب يصدر بمناسبة تكريمالدكتور عبد الحسين شعبان من قبل «دار سعاد الصباح»، فرحت كثيراًوتباطأت وأخذت أؤجل البداية لأن قربي ومحبتي لهذا الإنسان الكريم يصعبشرحهما للآخرين. والأمر كان صعباً كذلك لأني لست معتاداً على المشاركةبمثل هذه المناسبات. ولشحذ الأفكار، قررت أن أرجع إلى كتب نشرها الدكتورشعبان كنت قد قرأتها وتأثرت بها. وهذه الكتب هي: « كوبا الحلم الغامض» و«فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي» و«تحطيم المرايا في الماركسيةوالاختلاف» و«الجواهري جدل الشعر والحياة « و«دين العقل وفقه الواقع». والكتاب الأخير كنت قد نشرت عنه مقالين في «القبس». كما تمت مناقشتهوتقديمه من قبل الكاتب في ندوة عقدت في «الجمعية الثقافية الاجتماعيةالنسائية» بالخالدية في الكويت. ولكن خلال تجوال عيني لأجمع كتباً نشرهاصديقي المكَرَّم، وإذا بي أجد كتاب «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعيةالأولى»، والذي اكتشفت أني لم أقرأه. وكنت قد اشتريته من مكتبة بيسان علىشارع غاندي المتفرع من شارع الحمراء بـ21000 ليرة لبنانيةأي ما يعادل 14 دولاراً أمريكياًوتاريخ تسعير الكتب أو أي سلعة في لبنان يعكس مدى تدهورأو متانة اقتصاد أي دولة. وعندما تصفحت هذا الكتاب وبدأت أقرأ فيه، وجدتأن هذا الكتاب هو الكتاب الذي أبحث عنه، والذي يشرح ويعطي الأسباب لنمووتدهور المجتمعات والثقافات، ليس من خلال بحث متكامل لنيل الدكتوراه، وإنمامن خلال تجربة إنسانية وسياسية وثقافية عملية جمعت بين ما ناله من حبللثقافة والأدب أيام نشأته الأولى في النجف ثم جامعة بغداد، فالدراسة العليافي جامعة براغ، وتنقلاته وحياته في مدن مثل دمشق وموسكو ولندن وبيروت. والأهم في الكتب أنه يطرح تجربة إنسان مرهف الإحساس من ناحية، وقويجداً من ناحية أخرى. انتمى للحزب الشيوعي العراقي في مرحلة مبكرة منحياته، واضطر بسبب هذا الانتماء لأن يغادر العراق، ويجمع بين التحصيلالدراسي والعمل السياسي الدؤوب، ويتأهل أكاديمياً وحزبياً وسياسياً معاحتفاظه بحاسة نقدية يفتقدها أغلب العاملين في المجال الثقافي والاجتماعيوالسياسي.

ويأخذه حبه لوطنه وانتماؤه السياسي إلى جبال كردستان حاملاً السلاح ضدالطغاة ونصيراً للمضطهد. وهذا المثقف الذي حمل السلاح في شمال العراقفي أول الثمانينيات يساهم في تأسيس «جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان» فيلبنان بعد أكثر من ثلاثين سنة. وكأنه يساهم في تقديم اللاعنف كسلوك أفضلعلى مسرح العمل السياسي. فالتجربة كفيلة بإعطاء قاعدة لانطلاق الأفكار. فكما هو الإبداع في الكتاب يتطلب أكثر من قضاء الساعات والأيام في القراءة،فإن الإبداع في العمل التنظيمي والاجتماعي يتطلب تجربة قد تغنيها المخاطرة. فللمخاطرة والحروب وقت لكن لا بد أن تهدف للسلام. وفي هذا المجال، تقتبسحنة أرندت في كتابها «في اللاعنف» باستعارة كرويز أوبريان من الفلاحالإيرلندي وليام أوبريان: «أحياناً يكون العنف الطريقة الوحيدة التي تؤمّنسماع صوت الاعتدال»، لكنها تحذر: وإن كان العنف يحقق أهدافاً على المدىالقصير، لكن يكمن الخطر بتحول الوسيلة إلى غاية. والتجربة في العراقوسورية ولبنان وليبيا وأكثر من بلد عربي، وبعد المعاناة والحروب والتشريد،تحثنا على أن العنف قد استنفد كوسيلة لتحقيق الأهداف.

لعل أهم ما نتعلمه من كتاب «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى» أنالدكتور شعبان قرأ في الماركسية والفلسفة والتاريخ الإنساني والأدب وهضمما قرأ، مما جعله متمكناً من نقد الماركسية وما قرأ. وفي مقدمته الفلسفيةوالعميقة لهذا الكتاب، يميز بين الداعية والمثقف. فالداعية في أغلب الأحيان يقرأقليلاً وإن قرأ لا يستوعب، وشعوره بضرورة الانتماء إلى جماعة، يجعله يبررأخطاء جماعته، ويردد شعاراتها. وقد تكون هذه الجماعة تنظيماً سياسياً أو قدتكون جماعة دينية. أما المثقف فلا يستطيع أن يتخلى عن حاسته النقدية، وعادةما تكون طموحاته مثالية وليست رغبة في تحقيق طموحات تنظيمية. وعادة ماتكون معاناته كبيرة عند الالتزام السياسي بتنظيم أيديولوجي مثل التنظيماتالبعثية والشيوعية والدينية. وهذا الالتزام المبكر في الحزب الشيوعي مع وجودشغف معرفي ساهم في نسج ثقافة عميقة ومتنوعة في عقل الدكتور عبدالحسين زاد من معاناته، وذلك لأن هذه الثقافة والشغف المعرفي محملان فيعقل إنسان مرهف الإحساس وحيّ الضمير. فمع انتمائه الماركسي وإعجابهبما قدمته من فكر ومنهج إلا أنه أدرك في وقت مبكر أنه ما من فكر وما منمنهج إلا ويخضع للنقد. وهذا لا يعيب الفكر وإنما يجدد حيويته، حاثاًالماركسيين على «قراءة الماركسية بروح القرن الواحد والعشرين وبمنهجيةماركس الذي لا يزال يمتلك حيوية، لا بتعاليمه التي تصلح لعصره، وعفّى الزمنعلى الكثير منها». فالفكر مهما كان حيوياً وعميقاً فإنه يخضع لمتغيرات الزمن،ومن دون نقد يتحول الفكر إلى أحفورة. لذا يستشهد الدكتور شعبان بما طرحهالشاعر التشيلي بابلو نيرودا من «أن تعاقب الحلم يجعل المرء يقوى على تحملالكثير من المشقات».

وأستشعر من خلال قراءتي لهذا الكتاب أن الدكتور شعبان كان يعاني منالالتزام الحزبي، لأن هذا الالتزام كان يكبح حاسته النقدية، وبهذا يذكرالكتاب:

«كنت أشعر بثقل الوصاية، ولهذا حاولت البحث عن صيغ أخرى جديدة مهنيةوحقوقية لخدمة الإنسان، ولاسيما في البحث عن الحقيقة خارج إطار اليقينياتالسرمدية والحتميات التاريخية وبعيداً عن التهويمات العقائدية، بهدف التجديدالفكري وعبر عناوين وأسماء ذات حيوية وفعالية راهنة».

وعندما أقرأ في هذا الكتاب، أتذكر تجربتي البسيطة في العمل السياسي منخلال منظمة الطلبة العرب في الولايات المتحدة في منتصف السبعينيات. ومعأن تجربتي تعتبر سطحية مقارنة بتجربة الدكتور شعبان العميقة والواسعةوالطويلة، إلا أني كنت كذلك أحمل حاسة نقدية رفضت هيمنة الأحزابالسياسية العربية على إرادة الطلبة العرب. وبالذات كنت أرفض هيمنة تنظيمحزب البعث والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة فتح.

وما يميز صديقنا عن آخرين عملوا في الحقل السياسي بلاغته وحاستهالشعرية والذي مكّنه من أن يكون قريباً من الشاعر العظيم محمد مهديالجواهري. فعلى الرغم من أن هناك فارقاً بالسن بينهما يزيد على أربعين عاماً،إلا أن الحاسة الشعرية جعلته يستوعب شعر الجواهري، وأن يكون قريباً منه،مؤلفاً كتاب «الجواهري جدل الشعر والحياة». ولا شك أن الخلفية الاجتماعيةوالثقافية والدينية لمدينة النجف ساعدت كثيراً على نسج وشائج المحبة والتقديروالإعجاب بينهما. هذه المدينة «المحافظة شكلياً والتقدمية جوهرياً».

وعندما تقرأ الكتاب، تشعر وكأن عامر عبدالله الذي انتسب للحزب الشيوعيالعراقي عام 1949 بتجربته الحزبية والقيادية وبتوليه منصباً وزارياً في حكومةأحمد حسن البكر، وبعلاقته مع المؤلف، قد ساهم بتوليد الطاقة النقدية للأخير. هذا وقد ولد عامر عبدالله في مدينة عانة عام 1924 وتوفي في لندن عام 2000. ولعل أبرز ما يميز الدكتور شعبان أن صداقاته وعلاقاته داخل الحزب وداخلالعراق وفي الوطن العربي والعالم، غير مناطقية وغير طائفية وغير قومية، وإنكان قد نشأ في النجف، فقد نهل منها أفضل ما ينهل من هذه المدينة المقدسة. فقد تشرب بمثالية دينية وإن انتمى للحزب الشيوعي. وقد يختلف الكثير معي،لكني أعتقد أن المثالية الدينية قريبة من المثالية الشيوعية. لذا من الغريب أننجد كثيراً من القيادات الشيوعيةإن كان في العراق أو سورية أو أي مكانآخر في العالم العربينشأت في بيئة مفعمة بالمثالية الدينية. وهذا يمتد إلىشيوعيي أوروبا وبخاصة شيوعيي إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وعندما أشرت إلىأن علاقات وصداقات المكرَّم لا تحدها الانتماءات القومية، فهذا لا ينقص منانتمائه العاطفي والثقافي للأمة العربية. وهذا ليس بغريب، فهو ضليع وخطيبوكاتب لأكثر من 50 كتاباً باللغة العربية. وهذا لا يخص د.شعبان فقط، وإنماكل مثقف مهما كانت جنسيته، ومهما كانت لغته، يشعر دون أن لا يشعر بأناللغة هي وطنه. ويذكِّرُني هذا بما ذكره المؤرخ الأمريكي أناتول رابوبورتالروسي الأصلمن علاقة اللغة في المواطنة، وذلك في مقدمة كتاب «حولالحرب» لفيلسوف الحرب الألماني كارل فون كلاوتزفيتز Carl Von Klauswitz، والذي كان يرى فيلسوفاً في الحرب وأديباً في كتابه علوم الحرب،وذلك حسب تعبير رابوبورت: «اللغة هي المقياس الأكثر أهمية الذي يتجسد فيهالتعريف بالمواطنة. وحب الفرد للغته من مظاهر الإحساس النبيل الذي يتملكالمفكر والمثقف وذوي الأخلاق الكريمة».

وتغير موقف المؤلف من الحرب العراقية الإيرانية يعكس مثاليته وانتماءه القوميالعربي. فعندما كان العراق معتدياً بشنه الحرب على إيران في سبتمبر 1980،وقف ضد نظام صدام، لكن بعد أن احتلت إيران العراق، وقف مع وطنه العراق. لذا يذكر في كتابه هذا: «الموقف المعارض لا يقدم الحزبي أو الطارئ أو المؤقتعلى حساب الوطني والثابت والاستراتيجي، فالوطن هو القضية الأكبروالأهم».

ويضيف: «لقد كنت من معارضي النظام السابق سياسياً وحقوقياً لاحقاًوبأعلى صوتي ودون أن أختفي وراء أسماء وهمية، وكنت ضد حربه مع إيرانعام 1980، ولكن عندما سحب الجيش العراقي قواته من الأراضي الإيرانية لميعد هناك مبرر لاستمرار الحرب التي كانت في البداية هجومية عدوانية منجانب العراق. وعند انتقال الحرب إلى الأراضي العراقية، كنت من أوائل الذينصرّحوا وعملوا في المحافل الدولية والعربية إلى الأخذ بنظر الاعتبار التغيراتالتي طرأت على طبيعة الحرب، وأدت إلى أن تصبح هجومية عدوانية من ناحيةإيران ودفاعية وطنية من جانب العراق».

وفي هذا المجال، كنت أنا من القلة من الكويتيين الذين تبنوا موقف المؤلف دونأن نعرفه. فالبشر أينما كانوا وفي أي وقت يمكن أن يتشاركوا في حاستهمالنقدية. وأود أن أضيف في هذا المجال أنه عندما قصفت مدينة حلبجة فيكردستان العراق بالغازات السامة، أو عندما نشر الخبر بالصحافة الأجنبية،أخذت أكثر من صورة لخبر الجريمة الكبرى من الإيكونومست البريطانيةالمؤرخة في 28 مارس 1988. وكان ضمن الخبر المنشور في المجلة صورة لرجلكردي سقط ميتاً ضاماً طفلته الصغيرة بسبب القصف بالغازات السامة. فأخذت صوراً من هذه المجلة للرجل الكردي وطفلته ووزعتها على بعضالأصدقاء. لكني لم أجد تعاطفاً يستحق الذكر، فكل الحماس والعواطف كانتمتوجهة من أجل صمود الجبهة الشرقية.

في القسم الثاني من الكتاب الذي يشرح فيه الكاتب السلوك المثالي لتعاملالمثقف من الآخر، يمكن إدراج هذا الفصل «المثقف والموقف من الآخر» ضمنالأبحاث التي ينشرها علماء النفس الاجتماعيون Social Psychologists فيمجال تنمية الذكاء العاطفي. وأرى أن ما يدعو إليه الكاتب من نبذ للحقدوالضغينة ضروري ليس للعمل السياسي، وإنما لأي عمل وفي أي مجال: «السياسي والمثقف لا ينبغي أن يتعامل مع الأمور من موقع الانتقام أو الحقدأو الضغينة، لأن الكراهية إذا ما سيطرت عليه ستحكمه وتجره إلى مواقف لايريدها، بل ستخلق ضرراً به. ولا أحد يدعي امتلاك الحقيقة كاملة ولا أحد لايخطئ. وكل القوى السياسية مارست الإقصاء والعزل والاستئصال. ولذلك كنتضد الإلغاء والإقصاء والاستئصال والعزل تحت أي حجة كانت».

وللبيئة العائلية وظروف النشأة الاجتماعية والاقتصادية أثر كبير في تشكلالعواطف النفسية نحو الآخرين. ولا أحد يخلو من تشكل مشاعر حب نحوالبعض وكراهية نحو آخرين. لكن التحدي الإنساني الأهم في مسيرة الإنسانهو التمكن من التخلص من مشاعر الكراهية، بل وأن تتحول هذه المشاعر إلىمشاعر حب، وهذا ضروري لإكمال تحقيق السعادة. لكن هذا لا ينجز بتوصيةأو بقراءة كتابوإن كان الأخير يمكن أن يساعد على ذلكإنما يتحقق منخلال الخوض في تجربة نفسية وعملية. فالنفس تحتاج أحياناً إلى أن تبحرإلى اتجاهات مختلفة، وأحياناً من دون بوصلة، لكي ترسو في النهاية فيمرسى المحبة. ومن معرفتي للدكتور شعبان على مدى أكثر من 20 سنة، لمأشعر أو أسمع منه مشاعر كراهية نحو أحد. وكان في منافيه يزور فيالمستشفيات من أساء له عندما يمرض، ويقدم العون لمن احتاج وإن كان منالتنظيمات التي أضرت به أو أساءت إلى مجموعته. فهذا نضج إنساني يفوز بهالفرد بعد معاناة. والحقيقة أنه قبل قراءتي لهذا الكتابومع معرفتي به أكثرمن عقدينلم أكن أعرف مدى قسوة التهجير والغربة التي مرَّ بها هذاالصديق، ومع كل هذه العذابات لم يفقد حلمه:

«إن التنكيل بعائلتي واعتقال أفرادها جميعاً بمن فيهم والدي ووالدتيوإخضاعهم لرعب مستمر على مدى يزيد على عشرين عاماً لم يقف بيني وبينالموقف الوطني السليم الذي كان عليَّ اتخاذه رغم كل الآلام والعذابات».

وعذاباته لم تأتِ من مخابرات وشرطة النظام، إنما حتى من الحزب الذي انتمىإليه في سن مبكرة:

«في السبعينيات تعرضت إلى أكثر من عقوبة حزبية بعضها غير معلن، وفيالثمانينيات مُحيت من جميع المسؤوليات، وذلك بسبب الرأي. كان الشائع أنالذين يرفضون الذهاب إلى كردستان يعاقبون. أما أنا، فإن إصراري علىالعودة إلى كردستانرغم مرضي آنذاككان سبباً في انفتاح الصراع علىالمكشوف مع القيادة الرسمية، رغم عدم قناعتي بما يسمى الكفاح المسلح،لكنني تلمست محاولات عزلي وتهميش دوري واستشعرت أمراً مبيتاً للحركةتمهيداً لتصفية المعارضة الداخلية وعقد المؤتمر الرابع».

ولعل من أهم ما يميز د.شعبان أنه يعطي الثقافة وزناً كبيراً ويجعل وجودهاضرورة لإنارة مسار العمل السياسي. ولعل هذا من أهم أسباب تقديره للقياديالشيوعي عامر عبدالله (1924 – 2000)، وذلك لأن عامر عبدالله «فهم السياسةباعتبارها تجسيداً أعلى للثقافة والفكر.. ولعل قليلين مَن جمعوا الفكر بالسياسةأو اجتمعت فيهم مزايا الفكر وبراعة السياسة».

وعند الحديث عن الشيوعية، فإننا نتحدث عن أحد التطبيقات للفكر الماركسي. لكن هذا لا يعني أن ماركس أرادها أن تكون كما انتهت إليه. فماركس نفسه هومثقف أكثر منه سياسي. وأشك أنه كان سيختار العيش في الاتحادالسوفييتي أو الصين. فهو صاحب عقل حر، وما كان سيتحمل تكميم الأفواه. كذلك كان رفيق دربه إنجلز. وإقامة ماركس في لندن إلى وفاته كانت هروباً منالمخابرات البروسية الألمانية، فلندن وبخاصة مكتبتها العامة منحته المحيطالمناسب للتفكير ولكتابة «رأس المال». وإنجلز لا يقل عن ماركس في توقه إلىالحرية وتغليب الثقافة على السياسة. فعندما اشتكى إنجلز من قطع أجزاء منمقال له عند نشره، وأجاب المحرر بأنهم حذفوا ما لا يتناسب مع خط الحزب، ردَّإنجلز وفقاً لكتاب د.شعبان على المحرر بقوله:

«ومتى علَّمْناكم أنا وماركس أن السياسة أهم من الفكر».

ويتطرق كتاب الدكتور شعبان «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى» إلى العذابات المزدوجة التي عانى منها الشيوعيون اليهود العرب وبخاصة فيالعراق. فاضطهادهم عادة ما يكون مزدوجاً من السلطة والشعب، وحتى منالرفاق لكونهم من اليهود. وإن كان الشيوعيون العراقيون هم الأكثر نشاطاً فيالحزب الشيوعي، فإن الشيوعيين المصريين عانوا إلى حد ما من نفسالاضطهاد. وقد نشر اليهودي الشيوعي المصري ألبير آريِّة (1930 – 2021) مذكراته التي تقدم أمثلة على ذلك. فقد دخل ألبير آريِّة السجن خلال فترة العهدالملكي وقضى سنوات أطول في السجن في عهد عبد الناصر.

وفي بداية كتابه الذي يروي فيه مذكراته، يقتبس آرية من المجري البريطانيآرثر كوستلر قوله: «لا أحد يختار السرير الذي يولد فيه»، بمعنى أننا لا نختارديانتنا أو طائفتنا أو لوننا أو لغتنا. هي حقيقة بسيطة يعرفها الجميع، لكن لايدرك مغزاها إلا القليل. فإدراك معناها يعني نبذ التعصب لدين أو مذهب أوقومية. وحياة الإنسان منذ مولده إلى نهايته تخضع مساراتها لاحتمالات يفاجأأو يفجع بها أو يسر.

يقول ألبير آريِّة في مذكراته:

«الحياة مثل لعبة الحبل المشدود بين قائمين، يجب علينا السير بحرص حتى لانفقد التوازن ونسقط. وعلى الرغم من خطورة اللعبة، فإننا لا نفقد متعتناوشغفنا بها، ونتمنى أن تكون الرحلة بلا نهاية».

ويصف الدكتور شعبان مشهداً يبين مأساة الشيوعيين العراقيين اليهود. فبعدثورة 14 تموز (يوليو) 1958 عرض على الشيوعيين المسجونين أن يطلقسراحهم مقابل تحولهم إلى الإسلام. وقد قبل كلهم ما عدا حسقيل قوجمانالذي كان نزيل السجن لعشر سنوات. وكما يروي الدكتور شعبان عندما طلبمنه زميله الشيوعي هادي الأعظمي أن يتحول إلى الإسلام صرخ بوجهه:

«أنا الذي كنت أدرسك الديالكتيك في السجن، تأتي إلي لتغيير ديني، وتزجنيفي قضية لستُ مؤمناً بها، ولا ناقة لي فيها ولا جمل!!».

وقد قضى قوجمان سنوات أطول في السجن، وبعد إطلاق سراحه، سافر إلىإيران، ثم أقام في إسرائيل لمدة قصيرة، مهاجراً إلى لندن التي أقام وتوفي بها. وقد كان من خلال الأدب والرواية بالذات، تمكن فيه بعض الشيوعيين من ذويالحاسة الأدبية بالتعبير عن غربتهم واضطهادهم داخل التنظيم نفسه. وأعطىالدكتور شعبان مثالاً على ذلك برواية «ذئب وحيد في البراري» لسلام عبودوبرواية «مثل الدائرة» لسعدي يوسف.

هذا ولم يخطر ببالي أبداً أن أطلع يوماً على ما يثبت أن الحزب الشيوعي خارجالسلطة قد استخدم نفس وسائل القهر والتعذيب على بعض أفراد الحزب. فحتى وهو خارج السلطة، استخدم أحياناً نفس الوسائل التي كان يلجأ لهاحزب البعث الحاكم، وإن كان ذلك بدرجة أقل، فإن ذلك يرجع لأن إمكانياته علىالتحكم والبطش أقل. يقول الدكتور شعبان: «كيف يمكن السكوت عن حوادثقتل وتعذيب تمت في مواقع الأنصار؟ ولا يزال بعضهم يطالب بالاعتذار علىأقل تقدير».

ومما أثار اهتمامي في الكتاب، أمران يتعلقان ببيئة التنظيم وتأثير ذلك علىأدائه ومدى قدرته على تحقيق الأهداف، فالدكتور شعبان في أكثر من مكانينتقد من يعتبر التنظيم أو المجتمع نسقاً مغلقاً. وموضوع النسق المغلق والنسقالمفتوح درس من قبل الفلاسفة وعلماء الرياضيات والمجتمع والهندسة. والدكتورشعبان ينتقد من يعتبر الحزب أو التنظيم نسقاً مغلقاً لا يتفاعل مع محيطه ولايجدد أهدافه. ولعل أفضل مثال على النسق المغلق محرك أو ماكينة السيارة. فهذا المحرك يجب أن لا يتفاعل مع محيطه، وليس له هدف يوضع من قبل المحركنفسه. بينما من الضرورة للتنظيم أو الحزب أو الشركة أو الدولة أو الوزارة أنيكوّنوا نسقاً مفتوحاً، له هدف نهائي، ويتفاعل مع محيطه أو بيئته. ومنالضرورة أن يتمكن هذا النسق المفتوح من توليد الطاقة ضمن محيطه لكييتمكن من إدامة أدائه ليصل إلى أهدافه المتفق عليها ضمن هذا النسق أوالنظام. وأهم ما يميز النسق المفتوح هو أن له غاية.

وكما ذكرت في بحث عن نظرية الإنسان نشرته في مجلة «المهندسون» التيتصدرها جمعية المهندسين الكويتية في سبتمبر (أيلول) 1987، فإن النسق(System) هو وسيلة لتوحيد الأجزاء ضمن نسق كلي يكون أكبر من مجموعالأجزاء. فالتنظيم أو المؤسسة أو الحزب تعتبر أنساقاً مفتوحة، كل منها يتكونمن عدة أنساق مفتوحة، هم الأفراد الأعضاء أو العاملون ضمن النسق. فهناكنسق يتكون من أنساق أصغر متعددة. وأهم ما يميز كون النسق مفتوحاً هو أنهيسير نحو غاية وأنه يتأثر بمحيطه، ومن هذا التأثر بالمحيط يقيم هذا النسقمساره ويصلحه. لذلك فإن المجتمعات أو الدول التي يحترم فيها الإنسانويمارس حرياته ضمن القانون، تكون مجتمعات أكثر استقراراً وأكثر قدرة علىتطوير نفسها لكونها أنساقاً مفتوحة. ولهذا السبب فإن الحزبوهو نفسه نسقمفتوحالذي يعمل ضمن دولة ومجتمع يتمتع أفراده بالحرية في النقد. وعندماتكوّن الدولة والمجتمع نسقين مفتوحين، يكون هذا الحزب أكثر قدرة على تطويرنفسه. لذا لم أتفاجأ عندما قرأت في «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعيةالأولى» أن الحزب الشيوعي اللبناني كان أول حزب عربي يتوجه بالنقد للقيادةالسوفييتية. ويقتبس الدكتور شعبان من كريم مروة قوله:

«عوقبت الأحزاب الشيوعية التي تمردت أو تمايزت بحدود معينة عن المواقفالسوفييتية بأشكال فعالة مارستها أجهزة المخابرات وأدت إلى تقسيم هذهالأحزاب وطرد عناصر قيادية منها». ويضيف مروة: «وكان الحزب الوحيد الذيانتقد القيادة السوفييتية هو الحزب الشيوعي اللبناني برغم التدخل الفظلأجهزة المخابرات، وكان ذلك خلال ثورته التجديدية عام 1966». وقد كان أهممظاهر هذا العقاب أن اتهم أمينه العام جورج حاوي بالعمالة للمخابراتالأمريكية.

وهذا ما قصدته بأن النسق المفتوح يتأثر ببيئته ويتفاعل معها. فما يقرؤه كريممروة وجورج حاوي والكوادر الحزبية في لبنان غير متوفر لقيادة وكوادر أحزابعربية أخرى. كما أن أعضاء أحزاب في مجتمعات يمكن وصفها بنسق مغلقمجازاً (لأنه لا يوجد مجتمع ينطبق عليه وصف نسق مغلق)، لا تختلط ولا تتفاعلمع أفراد آخرين. كما أنها لا تقرأ أو تسمع ما يقوله أو ينشره الرأي الآخر. فليس مصادفة أن يكون الحزب الشيوعي اللبناني أول الأحزاب العربية التيتتجرأ على نقد القيادة السوفييتية. فالنسق المفتوح لهذا الحزب في النسقالمفتوح لهذا المجتمع أعطاه الفرصة بالتفاعل مع بيئته السياسية والاجتماعيةوالاقتصادية، مما طور حاسة نقدية لدى قيادته وكوادره.

إن هذا الكتاب «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى» يحفز القارئعلى التأمل والتفكير، وربما يحفز البعض على كتابة كتب حول أزمة الوعي لدىالشعوب العربية. وقد يحفز آخرين على كتابة رواية. ولو قرأه مخرج سينمائيفقد يفكر بتحويل بعض أحداث الكتاب إلى فيلم درامي. أقصد بذلك ما جرىفي بشتاشان في كردستان في أيار/ مايو 1983. ففيه من صبر وتضحيةوشجاعة وتراجع وخذلان مما يشكل كنزاً لحبكة روائية قابلة لأن تحوّل إلى فيلمسينمائي. ومعظم أحداث هذا «الفيلم» تدور على جبل ارتفاعه 7800 قدم. فكان هناك قرار بالانسحاب للمقاتلين الذين كانوا قد صمدوا بالرغم من تواضعقدراتهم مقارنة بقدرات القوات المعادية. وهم أصلاً تأخروا بالانسحاب للمحافظةعلى أجهزة البث الإذاعي لـ«إذاعة الشعب العراقي»، وكان الانسحاب صعباًجداً وفي ظروف مناخية أصعب. لكنه كان «أفضل من الموت مستسلمين»:

«غادر الجميع المواقع.. ونحن إذ نتجه بصعود جبل قنديل، فإذا بنا نشاهد فيالجهة الثانية موقع الإذاعة ينفجر والنار تختلط مع العاصفة الثلجية فيصللهيبها إلى السماء في لحظة غروب حزينة، حيث كانت فيها السماء تسقطحبات من الجليد الماطر، وكأنها أرادت أن تودعنا ونحن نعتصر ألماً لمغادرةمواقعنا في ظرف عصيب وحالة انكسار. وبعد لقائنا بصارم ومجموعته،شاهدنا عيونهم محمرة من البكاء على عزيز فقدوه، وهو إذاعتهم (إذاعة الشعبالعراقي)».

ويضيف:

«وفي الطريق، التقينا برفاق كانوا قد انسحبوا قبلنا، فأبلغناهم أن بشتاشانتم احتلالها، وانتقلنا سوية إلى مواصلة السير لأكثر من يوم إلى أن وصلنامناطق الحزب الديمقراطي الكردستاني فحملتنا سيارات كبيرة إلى قرية. وخلال بقائنا هناك، كنا نستمع إلى المدفعية المتقابلة، فهذه تطلق وتلك ترد،وبقينا في جامع لنصف ساعة، واكتشفنا أننا في الأراضي الإيرانية».

ولعل من المهم أن نرجع إلى مفهوم النسق المفتوح والنسق المغلق. فكما ذكرناسابقاً، فإن التنظيمأي تنظيميعتبر نسقاً مفتوحاً متفاعلاً مع محيطه. هذاإن كان حزباً أو شركة أو منظمة غير ربحية أو مجتمعاً، والذي يتكون من أفرادتتجمع مكونة عائلة وآلاف العوائل، أي عدة أنساق مفتوحة. لكن أفراد هذهالعوائل يتجمعون كذلك خارج الأنساق العائلية، كل حسب توجهه أو خبرته. وقديشتركون في الأنساق التي ينضمون إليها، وقد ينضمون إلى أنساق مختلفةمن خلال عملهم أو توجهاتهم وأهوائهم. فقد يعملون من خلال نادٍ رياضي أوحزب أو شركة أو وزارة. فالمجتمع ما هو إلا نسق مفتوح، كل عنصر فيه (الفرد) يكون نسقاً مفتوحاً بذاته، لكن هؤلاء الأفراد يتجمعون وينضمون إلى أنساقمتداخلة أحياناً، ومتنافسة أحياناً أخرى. ويبدو أن بيئة جبال كردستان تداخلتمع بيئة الحزب والعلاقات الفردية بين أعضائه، والذي أدى إلى أن يستبدلالرفاق:

«الثقافة الشيوعية المدنية والعصرية الحديثة والتقدمية بثقافة الحمدانيوالشروال وشد البغال كما عبّر أحدهم في الجبال النائية، وأصبحت هناكمعايير جديدة مفروضة على الرفاق غير المعايير الشيوعية، فيها الكثير منالقيود العشائرية والقبلية والاجتماعية وجوانب عديدة من التعصب والتطرفوالمبالغات والدخول في مزايدات، ناهيكم عن معايير متخلفة لا يجمعها جامعمع الفكر الشيوعي».

ولاحظت أن كثيراً من الأفكار العميقة التي استقيتها من هذا الكتاب، كنت قدوجدتّها في قراءاتي لمفكرين كبار مثل الألماني الأمريكي إيريك فروم وآرثركستلر. والأول ينتمي إلى «مدرسة فرانكفورت للعلوم الاجتماعية»، والتيتكونت فكرياً من أساتذة من جامعة فرانكفورت في منتصف الثلاثينيات منالقرن الماضي. وقد هاجر الغالبية العظمى من أعضائها إلى الولايات المتحدةبعد هيمنة النظام النازي على الحكم. وإضافة إلى فروم ينتمي إليها هربرتماركوزه وثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر. أما يورغن هابرماس والذي يبلغ منالعمر حالياً 95 عاماً، فقد بقي في ألمانيا، لأنه كان أصغرهم سناً، ولم يكنيهودياً. أما آرثر كوستلر فكان يهودياً هنغارياً عاش في فيينا ثم لندن. وكانماركسياً في بدايات حياته ثم أصبح صهيونياً، وفي النهاية تخلص منصهيونيته ونشر أكثر من رواية أهمها «الظلام في الظهيرة». وهذه الروايةتتعلق بتجربة د.شعبان في السياسة والفكر والأدب. بل إن «المثقف وفقهالأزمة» يؤرخ للتجربة السياسية غير المستقرة التي مرَّ فيها العراق خلالالستين سنة الماضية بطريقة مشابهة لما أرَّخه كوستلر في «الظلام فيالظهيرة». إلا أن د.شعبان يكتب تاريخاً بشخصيات وأحداث حقيقية بينما أرَّخكوستلر للفترة الستالينية مختلقاً حبكة روائية خيالية، لكنها قريبة من الواقعالذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي. فحتى مكسيمغوركي الروائي والأديب الكبير الذي احتفي به في بداية الثورة الروسية 1917،كاد يفقد حياته على يد ستالين في الثلاثينيات.

ومما أشار إليه د.شعبان في هذا الكتابويبقى مهمّاًهو أن المنفى عزلالنشطاء السياسيين العراقيين بمن فيهم الشيوعيون عن الشعب. لذلك أصبححضور الحزب ضعيفاً في المجتمع العراقي بعد سقوط نظام صدام. ويوضحد.شعبان:

«إننا الآن نبذل جهداً كبيراً عندما نريد التحدث مع مستمعينا أو من نلتقيهم أونتحاور معهم في بغداد وعدد من المدن العراقية بسبب الانقطاع التنظيميوابتعادنا عن ساحة الوطن».

ويضيف:

«لقد خرج الحزب بقضِّه وقضيضه تقريباً إلى المنفى دونما توجه معين».

هذا ومع أن الاضطهاد والحراب الداخلي بين الأحزاب السياسية في العراقفيما بينها وداخلها، كان السبب في القضاء على نخبة من القياديين الحزبيينوالمفكرين في العراق، إلا أن ما حصل في الفترة الستالينية في الاتحادالسوفييتي كان أعظم. وأود أن أشير إلى بعض الإحصائيات التي أشار إليهاد.شعبان في هذا المجال. فقَدْ فَقَدَ الاتحاد السوفييتي خلال الفترة 1930 – 1953 ما يقارب أربعة ملايين مواطن، إما رمياً بالرصاص أو من الجوع والبرد. ومن بين أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية أوكرانيا قُتلمئتان باستثناء ثلاثة بقوا على قيد الحياة.

و«الظلام في الظهيرة» لآرثر كوستلر تصوروإن بأسلوب خياليما حدثلنيكولاي بوخارين (1888 – 1938) الذي كان محبوب الحزب ولينين، فاضطرتحت التحقيق والتعذيب لأن يعترف بشيوعيته «المشوهة»، ويشرح د.شعبان أنبوخارين صرح:

«بأنه يستحق الموت عشرات المرات، وقال زينوفيف عن نفسه إنه تحول منالتروتسكية إلى الفاشية وطالب كامينيف المحكمة باتخاذ قرار بإعدامه لأنهيستحق ذلك، والمهم هو السير على طريق ستالين».

لذا فإن الالتزام السياسي في أحزاب تلجأ إلى العنف الثوري مخاطرة كبيرة. وإن لم يأتِ الخطر من خارج الحزب، فإنه يأتي من داخله، وبخاصة إذااستولى هذا الحزب على السلطة في الدولة. والأكثر معاناة هو ذلك الذي تدفعهحاسته النقدية إلى قول الحقيقة. ويستشهد الكاتب في هذا المجال بقول جانبول سارتر: «هل يجب أن أقول الحقيقة، فأخون البروليتاريا، أم يجب أن أقولالحقيقة بحجة الدفاع عن البروليتاريا؟».

هذا وعلاقة المثقف بالسلطة وعلاقة ذلك بالحرية من أهم العناصر التي يبحثفيها الكتاب. فالحرية ضرورة للإبداع. فهل يكتب الشاعر بطريقة لا تزعجالسلطة على حساب الإبداع؟ وهل يسخّر الفنان التشكيلي قدراته الفنية لنحتتمثال، أو رسم لوحة يرضى عنها النظام، وعلى «حساب العملية الإبداعية وعلىحساب المستوى الفني والمعيار الجمالي». ويرى الدكتور شعبان أنالديمقراطية لا تخلو من ثغرات، لذا تمكن هتلر من الوصول إلى الحكم منخلالها، كما أنها أوصلت مؤخراً دونالد ترامب إلى الرئاسة. لكنه يقول في مقالنشره بتاريخ 4 يوليو 2019 بعنوان «عبء الديمقراطية»: «إن الديمقراطيةتتطور وتتغير وتتراجع أحياناً، وأهم ما فيها قدرتها على إدارة التنوع باتباعآليات سلمية».

هذا ويُحَمِّل الدكتور شعبان قيادة الحزب الشيوعي أسباب فشل الحزب فيتكوين قاعدة شعبية له بعد سقوط النظام الديكتاتوري، والذي يعزوه إلى قبولالحزب بصيغه بول بريمر للتقاسم المذهبي وتبريرها. ويتساءل: كيف يتحول هذاالحزب الذي كان يضم نخبة واسعة من المثقفين العراقيين إلى تنظيم ضعيفمعزول عن المجتمع؟ حتى إنه لم ينل أي مرشح نسبة أصوات تؤهله للوصول إلىمجالس المحافظات!

هناك وسائل عديدة للتعبير عن تقدير الدكتور عبد الحسين شعبان من خلالالمشاركة في تكريمه من قبل «دار سعاد الصباح» في الكويت، وكان لدي أكثرمن خيار للتعبير، ولكني اخترت أن أعرف أكثر عن ثقافته وتجربته السياسيةوعمقه الفكري. وأعتقد أني وفقت بأن اخترت الحديث عن «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى» الذي صدر في تموز (يوليو) 2016 عن دار بيسانللنشر في بيروت.

ولا بد من الانعطاف على «الجواهري، جدل الشعر والحياة» في ختام هذهالمشاركة في تكريم هذا المثقف والمناضل:

أَحاوِلُ خرقاً في الحياةِ فما أجرا

وآسَفُ أن أمضي ولم أُبقِ لي ذكرا

ويُؤلمني فرطُ افتكاري بأنَّني

سأذهبُ لا نفعاً جلبتُ ولا ضُرّا

مضتْ حِججٌ عَشْرٌ ونفسي كأنها

من الغيظ سيلٌ سُدَّ في وجهه المجرى

وما أنتَ بالمُعطي التمرُّد حقَّه

إذا كنت تخشى أن تجوعَ وأن تَعرى

ذممتُ مُقامي في العراقِ وعلَّني

متى أعتزمْ مسرايَ أن أحمَدَ المسرى

لَعلي أرى شِبْراً من الغَدر خالياً

كفاني اضطهاداً أنني طالبٌ شِبْرا

وكما بقي وسيبقى ذكراً لصديقك الجواهري، فإن المحبة والتقدير والتكريميحيط بك أينما ذهبت في العالم العربي، أو حيث يعيش العرب، إن كان فيمالمو في السويد، أو في لندن أو أمستردام أو ديترويت.

وهذا التكريم المقدم من «دار سعاد الصباح» يعتبر تكريماً للثقافة في العراقوالعالم العربي، كما أنه دعوة للارتقاء بالوعي ولتقديم الثقافة والحق علىالسياسة.

فشكراً للشيخة الدكتورة سعاد الصباح على هذا التكريم، وشكراً لها على جهودها الكبرى في دعم أرباب الثقافة في وطننا العربي الكبير

 

.

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours