توطئة :
في خطوة تاريخية تجمع بين رقي الفكر الإنساني والتحديات الراهنة التي يواجهها العالم، شهدت “دار الندوة” في بيروت، يوم 30 مايو 2025، مناقشة موسعة حول “وثيقة الأخوة الإنسانية” التي وقعها البابا فرنسيس وإمام الأزهر الدكتور أحمد الطيب في 4 فبراير 2019. هذه الوثيقة، التي أطلقها مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية، تشكل أساسًا لبناء عالم تسوده روح التعاون والتسامح بين الأديان والثقافات المختلفة. لقد كانت فرصة ثمينة للاستماع إلى مداخلة الدكتور هاني سليمان حول أهمية الوثيقة، وتوجيه بعض الملاحظات التي تسلط الضوء على ضرورة نشر قيمها وتعميق تأثيرها في المجتمعات الإسلامية والمسيحية على حد سواء. بينما يتطلب منا التفاعل مع هذه الوثيقة ليس فقط على مستوى النوايا، بل أيضًا عبر خطوات عملية تضمن تنفيذ مضامينها الإنسانية النبيلة.
مداخلة الدكتور هاني سليمان حول ” وثيقة الاخوة الإنسانية” جاء فيها :
دائماً ما لا يفاجئنا الصديق القديم الدكتور ادونيس العكرة بجديد في الفكر والفلسفة والإنتاج الهادف ليلقي على عاتقنا مسؤولية متابعته ورعايته للتوافق عليه أو الاختلاف فيه ، بما يغني الموضوع المتناول ويجعله أكثر ثراء وفائدة .
واليوم يتحفنا مركز تموز بإدارته بإصدار يسلط الضوء مجدداً على ” وثيقة الاخوة الإنسانية” الموقعة في 4 شباط 2019 بين كل من البابا الراحل فرنسيس وبين إمام الأزهر الشريف الشيخ الدكتور احمد الطيب ، اطال الله بعمره ، وأبقاه ذخراً للعطاء والايمان الإنساني على مستوى الفكر البشري المنزه عن الاغراض الصغيرة والمحلق في دنيا القيم السامية الناظمة لحياة الانسان/ أي انسان/ في علاقته بخالقه وبمجتمعه على حد سواء ..
وككل ولادة / عسيرة كانت أو يسيرة/ لا بد من قابلة قانونية تساعد الأم على صحة الولادة والوليد، فقد تبرع الشيخ الدكتور محمد النقري بهذه المهمة الناجحة، فقدم شرحاً وافياً جامعاً لمقاصد هذه الوثيقة وتاريخها وأهميتها وفائدتها، في إشاعة روح التفاعل بين البشر، وفهم الآخر ونبذ العنف والتعصب وتعميم روح التسامح على قاعدة حفظ الحقوق والواجبات، مقدمة لإرساء مفاهيم الاعتدال والعدالة في المجتمع .
ويهمني في هذا المجال إبداء بعض الملاحظات المتواضعة سواء في الشكل أو المضمون علها تكون مفيدة بعض الشيء للقارئ.
أولاً: إن هذه الوثيقة وما تضمنتها من أهداف نبيله لم تأخذ حقها من النشر الكافي والإفادة والتعميم كوثيقة تاريخية، مفروض أن تكون بحوزة أوسع أطياف المجتمعات الإسلامية والمسيحية على امتداد العالم ، لتبنيها أو مناقشتها ، وباعتقادي ان اطيافاً واسعة من مجتمعاتنا لم تطلّع عليها أو حتى لم تسمع بها ، ولسد هذا النقص اقترح تشكيل مجلس أمناء لهذه الوثيقة مركزياً وبفروع متعددة في لبنان، لتعريف اللبنانيين بها والعمل بمقتضاها، أو على الأقل بمضامينها، وشهرها بوجه كل من تسول له نفسه نوازع التطرف والالغاء والتعصب وإذكاء الحروب الداخلية تحت أي عنوان أو شعار أو مشروع.
وفي اعتقادي ان وزارة التربية معنية بمتابعة هذه الوثيقة وتدريسها من الصفوف المتوسطة حتى الجامعية .
ثانياً: بسبب من سلطتها، وهيمنتها وامتلاكها لقرار الدنيا والدين على حد سواء واحتكارها للأعناق والارزاق، واجهت المراكز الدينية تاريخياً وتصدت لكل دعوة تجديد في الفكر، أو في العلاقات الإنسانية المتكافئة القائمة على معادلة الحقوق والواجبات والتعامل مع الناس على انهم بشر وُلدت حقوقهم الطبيعية بولادتهم أما “وثيقة الاخوة الإنسانية” الموقعة من ممثّلي اكبر مؤسستين دينيتين في العالم فقد جاءت استجابة لدعوات سابقة ونضالات حثيثة من اهل الفكر والرأي والايمان والمعرفة بضرورة رفع هيمنة الدين عن الشأن العمومي، والتعامل مع البشر على أساس المواطنة، وحفظ حقوق الافراد على ما قال الشاعر الألماني “غوته” (1749-1832) ” لا يجوز ان يكون الحق مسموحاً به، بل هو معترف به اما السماح به فهو إهانة.”
في هذه الوثيقة ترسيم للحدود.
– الحدود بين الحق والواجب.
– بين الحرية المطلقة المتفلتة من الضوابط والحرية المسؤولة أو المشروطة بحرية الآخر.
– بين حرية التفكير وبين مسؤولية الأداء على ما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871-1945) ” لو يستطيع الانسان ان ينفذ بعينيه ما يجول في فكره لما رأينا على الطرقات سوى الجثث والنساء الحوامل.”
– بين الدين والدولة على ما يقول الشاعر والروائي الفرنسي الشهير فيكتور هوغو ( 1802 -1885) النائب عن منطقة السين في باريس، “اريد ان يعود كل الى داره “ ” Je veux l’etat chey lui et l’eglise chey elle
لقد جاءت هذه الوثيقة ثمرة تلاقح بين عصر الانوار في أوروبا وحركة التنوير في وطننا العربي خلال القرنين الماضيين التي قادها مفكرون مسيحيون ومسلمون كفرح أنطون وشبلي الشميل ونجيب عازوري وجمال الدين الافغاني ورشيد رضا ومحمد عبده.
وفي اعتقادي ان هذه الوثيقة جاءت متقدمة جداً على الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أقرته الأمم المتحدة في 10-12-1948 ولهذا فقد رحبت الأمم المتحدة بها واعتبرتها مصدراً هاماً ومرجعاً في حقوق الانسان.
مع هذه الوثيقة نحن اليوم في حضرة منظومة من القيم تجسدت بما تضمنته من فقرات ومنها “نعلن وبحزم إن الأديان لم تكن أبداً بريداً للحروب أو باعثة لمشاعر الكراهية والعداء والتعصب وإراقة الدماء . فهذه المآسي هي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية ونتيجة استغلال الأديان في السياسة .”
ثالثاً: إن هذه الوثيقة لم تضع خارطة طريقة لتنفيذ مضامينها، انما هي إعلان نوايا متروك لنا وكل من موقعه ودوره في المجتمع، ان يكيّفها وفق التطلعات والتحديات، ووفق المأمول والممكن . كما أنها وإن نبذت الحروب في السياسة ، ورفضت الجشع والاستغلال والاضطهاد بصورة عامة، فانها أغفلت الجانب الاقتصادي المتحكم بحياة الشعوب، والذي كان سبباً لحروب كبرى تحت شعارات متعددة قادها أصحاب الرساميل الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات وكان هدفها السيطرة على مقدرات الشعوب وسلب حريتها وثرواتها.
رابعاً: قدمت هذه الوثيقة للأوطان والمجتمعات الأرضية الصالحة ” للعيش الواحد ” على قاعدة المواطنة دون تفرقة او تمييز. وفي هذا المجال يجد اللبنانيون أنفسهم أمام نمطين متناقضين من التعامل معها:
النمط الأول: هو تطييف السياسة وامتصاص رحيق التعددية كنعمة، وجعلها في خدمة السياسة كنقمة.
النمط الثاني: المرتكز الى اتفاقية الطائف التي كرست لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه متساوين في الحقوق والواجبات، دون الغاء أو اقصاء يؤديان الى حروب دورية يدفع ثمنها من لم ينخرط فيها، ومن ثم نعود الى نغمة تنذكر وما تنعاد.
هذا النمط كان مثلته شريحة واسعة من أهل الفكر والدنيا والدين والسياسة وخاصة عند العقلاء . كيف لا والامام موسى الصدر يقول ” التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها .
والمفكر منح الصلح يقول :” لبنان بالمسيحيين قام وبالمسلمين دام .”
والسياسي الشمالي المعروف قبلان عيسى الخوري يقول : ” تكمن أهمية لبنان في أن كل مسيحي فيه، فيه شيء من الإسلام، وإن كل مسلم فيه، فيه شيء من المسيحية .”
كان نقيب المحامين عصام كرم – رحمه الله – يقول لي:” التطرف سهل والاعتدال صعب ، ونحن رواد الصعب.”
وامام المتطرفين ومن أية جهة كانوا نحن في الوسط، والوسط هنا ليس ظرف مكان، انه حالة فكرية متوازنة تفكر بمسؤولية على الدوام.
+ There are no comments
Add yours