الرسمُ برؤاه المفاهيمية
والموسيقى بأثيرِ عُمقها الآسر.
كَتَب/ حسن عبدالحميد
كان لابد من فرض قيمة ما أقدم عليه الأثنان علاء بشير ب”الرسم” وبـ “الموسيقى” سلطان الخطيب، قبل البت والتفكير بما آل إليه ذلك الحدث الإبداعي الفخم ،المُبرم ما بين مُبدعيّن أثيرين ،تماهيا بخواص ما كان يملكان من مناسيب عُمق عشق، ونقاوة موقف، سعياً لما يجب أن تكون عليه “الحياة”، وجوهر ما تتوق بالوصول إليه “الحقيقة”، برغم كونها الضحية الأولى والوحيدة في أي نزاع يحصل، أو صراع، الحقيقة التي قال -بحقها- وليم شكسبير من إنّها تُخجل الشيطان.
مدينة المَلك
شاء لأن تشهد لندن مدينة الضباب، التي كان يُسّميها السيّاب ، بدر الشعر الحُرّ “الكفن الثلجي”، فضلاً عن أحدى أهم ضواحيها زهو وعلو شأن أعمال معرض طبيب الجراحة التجميليّة -الذائع الصيت – والفنّان- المُفكّر علاء حسين بشير، المنضوي بوهج عنوان “ المنقذ – The Savior “، وأن يصاحب ذلك عُزف مُتقن باهر، مختلف عمّا هو مألوف، بل غير ما متوّقع للمايسترو -الموسيقار سلطان الخطيب عازف البيانو الأشهر والباحث في الموسيقى الكلاسيكية، ضمن مراسيم حفل افتتاح المعرض المُقام في رحاب كنيسة تقع ضمن حدود منطقة “كينغستون” يوم السادس عشر من آيار هذا العام، ثمة زيادة بالمعلومات تؤّكد بأن “كينغستون” هذه – وبحسب موثوقات تأريخية- يُّسمى “مدينة الملك” كون المملكة المتحدة التي لا تغيب عنها الشمس، شاء وأن تأسست وأنطلقت من هذه المنطقة.
خشوع صوت واثق وعمق صدى، تجلّى بمقولة يسوع المسيح؛” أحبوا أعداءكم” والتي حيالها تملّى د.علاء بشير-كثيراً- وتفرّس في مغزى ما حَفِلَت تحمله هذه الحكمة الغائرة في ثنايا عقل وروح الإنسان، بُغية أن يبقى إنساناً خالصاً ،، نقيّا ،، خالياً من أي دّرنٍ وسوء وبغضاء أو دنس، كما خرج للحياة، وكيف يجب أن يغادرها خالي الوفاض، وفي حومة دقة مثل هذا المعنى ونصاعة قوة فحواه، تناهت إلى مسامعي عبارة شاعر الهند وفيلسوفها الحكيم رابندارانات طاغور يقول فيها؛ “كل طفل يحمل رسالة، مفادها أن الله لم ييأس بعد من الإنسان”.
أحبوا أعداءكم
تناول علاء بشير في مرتهنات معرضه The Savior ليُلّخص من خلاله معاناة الإنسان، وسُبل بحثه الدائم عن فكرة الخلاص، متمثلاً كل ذلك بمفازات ومعابر ومحطات ما مرّ به يسوع وصولاً لمأدبة العشاء الأخير، وما تنبّأ فيها عن نبأ موته حين شخّص وّحدد أسم الخائن يهوذا الارسخريوطي، حتى تواثبت سيره طريق الجُلجُلة … درب الالام وصولاً إلى لحظات صلبه.
تسامت الرؤية بنسقها النفسي والفلسفي لمعطيات د.علاء الفكريّة التي ترى في الرسم أبعد وأكثر من مجرد كونه حاجات تعبيرية محددّة، يجسّد كل ذلك في مجمل منتخبات المعرض، تلك الرؤيا التي تميّزت بتقديم رمزية الصليب عبر أشكال غير مألوفة، ففي لوافت إحدى لوحاته نشاهد حالة احتضان الصليب لجسد السيد المسيح بحنو وحميميّة آسرة، منفذة بطريقة بالغة الأثر والفرادة التي تتنوّع بها أعمال علاء بشير، وشساعة ما تتميّز من براعة وجدارة دأب وخلاصة ثقة في الإقدام على الاثر الذي يروم توثيقه، بجريان سحبه صوب عوالم وعيه ولوامع أفكاره، أما وفي لوحته الأثيرة-الصادمة “العشاء الأخير” حيث أعطى الفنّان لأقدام تلامذة يسوع المسيح بلاغة أثر حضورها الدرامي المُكثف للدلالة والمعنى عبر لقطة الكلوز آب- Close–Up،جاءت من تحت طاولة المائدة، على حساب إقصاء أجسادهم ووجوههم وملامحهم، ليُبقي-وبأسلوب بارع ومعالجة إبداعيّة فائقة-الأقدام شاهدةً على تلك الخيانة التأريخية المُفجعة.
يجدر أن نذكر بأن أعمال المعرض، تراوحت وتنوّعت ما بين تخطيطات، وأعمال زيتيّة، وبأحجام مختلفة.
يوهان باخ وسلطان
زخر يوم افتتاح المعرض-كما أشرنا- جمعة السادس عشر من آيار المنصرم، في محراب تلك الكنيسة، بتقديم الموسيقار المبدع سلطان الخطيب معزوفة ” العشاء الأخير” وهي من شواهق أعمال الموسيقار العبقري الالماني يوهان سباستيان باخ، أحد أعظم عباقرة الموسيقى في تأريخ البشرية، ذلك الذي اشتهر بأعماله للكنسية من تلك التي حفلت تحمل دلالات عميقة ترتبط بالمسيحية والمعتقدات الدينية، من ..هنا ..تأتي اختيارات سلطان الخطيب، لتتوافق وثيمات ما جادت تنشده أعمال المعرض، بأهواء وأجواء وعوالم ما أنجز البشير علاء، وما أثمرت لوحاته من معانٍ ودلالات، تتفرّس بأن يواكبها الخطيب سلطان بعزف بارع، مقتدر لأحدى معزوفات باخ.
ما حدث وأن جاءت طريقة العزف على نحوٍ مختلف وغير مألوف وغير متوقع، حين أنبرى مُستلهماً، منتشياً، مُتماهياً مع ذاته وتطويع تصوراته ومهاراته، إذ أخذ ينوء بدفع جسد البيانو على أرضيّة مساحة العزف وليتوقف درايةً وقصداً- أمام كل لوحة شارحا ًـ مُفسّراً من خلال عمق وتقانة عزفه المبهر هول ما حدث من خيانة كبرى في وقائع ذلك العشاء المريب، وسط دهشات وإعجابات وإنغمار وإنبهار وذهول من لدن جمهور الحضور، الذي غصّت به قاعة العرض وتجليات مهابة جلال العزف، وما زخرت به وحوته مأثر أعمال معرض “ المنقذ- The Savior “.
الصليب -البياتو
كان الخطيب قد أضفى طابعاً مسرحياً مُعزِزاً فيه خواص فهمه لقيمة أثر الفعل الدرامي في تعميق صلة الوصل ما بين قيمة العرض البصري متجسدا بالرسم والتخطيطات، وما بين القيمة الأسمى لما تحمله الموسيقى، فهي بحسب شوبنهاور الذي يرى ويقرُّ بأن جميع الفنون تطمح لكي تصل إلى مصاف الموسيقى، لذا أستطاع أن يُحوّل قاعة العرض إلى مسرح حيّ ، يتفاعل فيه الجمهور مع اللوحة والعزف، مٌلّوحاً، مُصّرحاً بالقول وهو يخاطب الجمهور بالنصّ؛ “إن الثيمة الرئيسية للمعرض هي الصليب، وصليبي أنا هو آلتي (البيانو)، لذا سأحمل صليبي بين الحشود وأتنقّل به بين اللوحات”.
+ There are no comments
Add yours