د. أوغاريت يونان
اعتدتُ أن أقول «حسين شعبان»، بمحبّة واحترام. وهكذا سأفعل في كتاب الوفاء.
بدعوة من دار سعاد الصباح للنشر، وبمبادرة كريمة من صاحبة الدعوةالشيخة الدكتورة سعاد الصباح، التي اختارت عنواناً وجدانيّاً «يوم الوفاء»،لتكريم شخصيّات أعطوا فأعطتهم هذا اليوم ومعانيه، اخترتُ أن أكتب عنجانبٍ في مسيرة المكرَّم، لا أعتقد أنّ لسواي معرفة عنه بقدري، فأنا التي دعوتُهللإبحار في رحلة حياة مع جامعة اللاعنف في لبنان منذ أربعة عشر عاماً.
كتبتُ أكثر من مرّة تحيّة للصديق الدكتور حسين شعبان. وسألتُ نفسي، ماذاسأكتب بعد! ووجدتُ أنّ من مسؤوليّتي أن أُخبر عن رحلته معنا، مع اللاعنف،هذه العلامة الفارقة برأيي، والتي باتت الصِّفة التي لم يعُدْ يودّ في الفترةالأخيرة أن يتمّ التعريف عنه إلّا بها وفق ما كان يخبرنا. سأكتب عن حسينشعبان واللاعنف، ليس توثيقاً وسرداً شاملاً بل محطّات وذكريات ومن كتاباتهبالذات.
بدايات
في «بوحٍ متأخِّر، شذرات من تجربة شخصيّة»، كما أسماه، كتب حسينشعبان أنّه لم يكن قد «اختار اللّاعنف تماماً كفلسفة وطريق للوصول إلىالحقيقة والعدالة»، لكنّه كان يعرف أنّه «شديد النفور من العنف، بل أزدري معنفسي في الكثير من الأحيان من يستخدمه أو يلجأ إليه، أو على أقلّ تقدير لاأشعر إزاءه بالاحترام. بقي المفهوم مشوّشاً في ذهني وملتبساً إلى حدود غيرقليلة، ولاسيّما ثمّة أهواء عديدة كانت تتنازعني ويشدّني بعضها إلى درجةالانجذاب، خصوصاً حين يتمّ تبرير اللجوء إلى العنف دفاعاً عن الحقوقوالحريات والمستقبل المنشود، ولاسيّما في مواجهة العنف بالعنف.. وأستطيعالقول إنّ الوضع السائد آنذاك والمستوى الثقافي والفكري لم يجعلني أتحوّلتماماً إلى اللّاعنف، على الرغم من أنّ بذوره كامنة، لكنّه لم يشكّل قطيعة نهائيّةبالنسبة لي مع العنف، بِحُكم وجود مبرّرات أخرى لاستخداماته لأغراضأيديولوجيّة وسياسيّة، وذلك تحت ذرائع ومسوّغات مختلفة».
التقينا بدايةً في مؤتمرات ولقاءات حقوق الإنسان العربيّة، في أكثر من بلدٍعربي، وبدا دوماً كأنّه يحمل على كتفيه (حقوق إنسان العراق)، ولو أنّه يحملبالطبع نظرة إنسانيّة تشمل المنطقة والعالم. وفي أحد اللقاءات المصغّرة فيتونس، التي دُعي إليها حصراً مؤسِّسو هيئات حقوق الإنسان العربية الأولىفي المنطقة، في أوائل التسعينيّات، وكنتُ المرأة الوحيدة في ذاك الاجتماع،وكان د.شعبان حاضراً بالطبع، هناك طرحتُ خيار اللاعنف. كان جديداً وربّماغير مألوف بالنسبة إلى معظم الحاضرين، مع ذلك عبّرت أكثر من شخصيّة فياللقاء، عن «أنّها أول فكرة جديدة ومُبهِرة تُطرَح أمامنا منذ ثلاثين سنة».
لا حقوق إنسان من دون فلسفة اللاعنف
جذريّة اللاعنف هي في أنّه فلسفة وفِعل معاً. فلسفة شاملة واستراتيجيا عمليّةللتغيير. من دون الفِعل والعمل التغييري الاستراتيجي، يفقد اللاعنف معناهالجوهري، حيث إنّه ليس رفض العنف وحسب بل مواجهته لإحقاق العدالةوإزالة الظلم.
اللقاء في جامعة اللاعنف
في عام 1983، وكانت الحرب الأهليّة في لبنان على أشدّها، انطلقنا، وليدصلَيبي وأنا، في مسيرة مشتركة، رفقة عمر ونضال، امتدت إلى أربعين سنة،يوماً بيوم، من أجل زرع ثقافة اللاعنف واللاطائفيّة والعدالة وحقوق الإنسانوالوسائل المبتكرة للتغيير المجتمعي، وبالأخصّ مأسَسَة كلّ ذلك في نسيجالمجتمع في سائر مجالاته، وصولاً سنة 2009 إلى تأسيس جامعة أكاديميّةبعنوان اللاعنف بالذات، أولى من نوعها في المنطقة وفريدة في العالملاختصاصات رياديّة ودراسات عليا غير مسبوقة. وليد صلَيبي، المفكِّر الرائدو«الشخصيّة التي لا تتكرّر» كما يقول عنه كلّ عارفيه، رحل العام الماضي تاركاًإرثاً لأجيال ولاستمراريّة الجامعة ودعماً للمقاومة اللاعنفيّة التي كان له الفضلفي بناء استراتيجيّات ومجموعات ناشطة باسمها في أكثر من بلد عربي.
.. ثمّ مرّت سنوات ولم ألتقِ العزيز حسين شعبان، إلى أن أسّسنا الجامعة. فاتصلتُ به، ونحن في السنة الثانية في مشروع الجامعة، ضمن تجربةنموذجيّة لدراسة كاملة بمستوى ماستر، مع طالبات وطلاب أتوا إلى لبنان منستّة بلدان عربيّة على مدى ثلاث سنوات، وأنجزوا بالفعل أول دراسة علميّة فياللاعنف. وبعد نجاح التجربة الأولى، حصلت الجامعة على الترخيصالرسمي.. وألقى الدكتور شعبان كلمة الأساتذة في الحفل، الذي توّجنا فيخلاله انطلاقة هذا الحلم، والذي أحياه الفنان اللبناني الأسطورة وديعالصافي. حين دعوتُه في صيف 2010، قلتُ للدكتور شعبان: هذا مكانك، وهذهإضافة نوعيّة في مسيرتك. وجاء بكلّ اندفاعٍ وسرور وتواضع، وأصبح عضواًفي مجلس الجامعة ومحاضِراً بها في مجالات حقوق الإنسان والعدالةالانتقاليّة، وأستاذاً ينتظره الطلاب ويتأثرون بخبراته وبشخصيّته. وكان اللقاءالأول له مع المؤسِّس وليد صلَيبي، وحلّ الانسجام الودّي بينهما من (أول نظرة) كما كانا يردّدان بفرح. سبق أن قلتها لك، وأقولها هنا اليوم: إنّ البسمة كانتترتسم على وجه وليد بمودّة صافية كلّما أتى على ذِكرك.
اعتبر الدكتور شعبان أنّ هذه الجامعة هي «سابقة مهمّة في العالم العربي لهادلالاتها على أهميّة فكرة اللّاعنف، خصوصاً من خلال الدراسة الأكاديميّةوالتجارب الكونيّة». ثمّ كتب لاحقاً في أحد مقالاته: «من باب العرفان بالجميل،علينا الاعتراف أن أوغاريت يونان ووليد صلَيبي هما من أبرز رواد اللّاعنف فيعالمنا العربي، حيث عملا برفقة حميمة طوال 4 عقود من الزمان حتى تمكّنا منزرع بذرة اللّاعنف بمشاركة كوكبة لامعة من المفكرين والنشطاء اللّاعنفيين،خصوصاً أنّ طريق اللّاعنف، كما أكّد غاندي أنّه يمكن أن يغيّر مجرى التاريخ،لأنّه يمتلك قوّة خارقة، هي قوّة الحقّ والسلام والانتصار للإنسان وإنسانيّته،فإنّ حركة اللّاعنف، وإنْ كانت نخبويّة ومحدودة، لكنها يمكن أن تكون وبالتراكمقوّة التغيير نحو الأفضل في عالمنا العربي».
رحلة اللاعنف
منذ عقد ونصف تقريباً، حجز حسين شعبان لنفسه رحلة الغوص العميق فيفلسفة اللاعنف واستكشاف روّاده وتراثه وأيضاً مواده الأكاديميّة المبتكرة فيالجامعة. تفتَّح ربيع اللاعنف في دروبه المتنوّعة ثقافيّاً، وراحت مقالاته الملوّنةبمفاهيم اللاعنف تُزهر وتنتشر، ومن خلاله راح أصدقاؤه وقرّاؤه يكتشفونويتعلّمون ويباركون له.
ويهمّني أن أستعيد هنا، لقرّاء هذا الكتاب الخاص عنك، بعضاً ممّا كتبته أنتَعن اللاعنف في السنوات الماضية، وفيه تكثيفٌ لمفاهيم ومبادئ رسَت فيقناعاتك.
تقول: «يقوم خطاب اللّاعنف على إيقاظ الضمائر والتأكيد على ضرورة عدممجابهة العنف بالعنف، لأن استخدام العنف ضدّ العنف يعطي مبرّراً للآخرلكي يتمادى في عنفه، وهكذا يلد العنف عنفاً والتعصّب تعصّباً والتطرّف تطرّفاًوالإرهاب إرهاباً.. الأساس في مفهوم اللّاعنف هو رفض العنف، سواء عنفالآخر ضدّ الذات أو عنف الذات ضدّ الآخر، فكلاهما يؤدي إلى نزع إنسانيةالإنسان.. اللّاعنف هو خيار مواجهة من نوع جديد يعتمد وسائل وآليّات جديدة،من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة، وطالما يُفترض في الغاية أن تكونشريفة، فالوسيلة هي الأخرى ينبغي أن تكون كذلك، لأن الوسيلة تكمن فيالغاية، مثلما تكمن البذرة في الشجرة، حسب المهاتما غاندي، أي أن هناكترابطاً عضوياً بينهما لا انفصام فيه. وفي ذلك نقض للمفهوم الماكيافيلّي الذييذهب إلى اعتبار «الغاية تبرّر الوسيلة»، خصوصاً أنّ هذا المفهوم أصبح كثيرالشيوع في السياسة والممارسة العملية التي تبرّر استخدام جميع الوسائل، بمافيها غير العادلة واللّاشرعية بزعم الغايات العادلة والشريفة، وقد برّرت الكثيرمن الأنظمة السياسية أفعالها بادعاء خدمة الإنسان وغاياته البعيدة المدىومستقبله المنشود، مضحيّة أحياناً بحرّياته وحقوقه وحاضره لغايات غامضة أوملتبسة أحياناً، حتى وإنْ تغلّفت بخيوط من ذهب.. بقي أن نقول إنّ مفهوماللّاعنف فعل مقاومة من نوع مختلف..».
وهذا بالذات ما عدتَ وذكّرتَ به في كتابك الصادر مؤخّراً، «مذكّراتصهيوني»، وعن قضيّة فلسطين بالذات: «طريقة التفكير الصهيونية.. وسائلماكيافيلّية يتمّ فيها تبرير الوسيلة بزعم الوصول إلى الغاية، علماً أنّ الغاية هيمن شرف الوسيلة، ولا غاية شريفة إنْ لم تكن الوسائل شريفة، وحسب المهاتماغاندي، فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة، فهما مترابطتانعضويّاً..».
وبوضحٍ تامّ، أعلنتَ في أكثر من مقال وحوار إعلامي، مواقفك من الثورة والعنفواللاعنف، وأستعيد هنا بعض عباراتك بكلّ اهتمام: «العنف لم يلوّث الثوراتفحسب، بل لوّث النفوس والضمائر وجعل كل ما هو لا إنساني طاغياً،ولاسيّما.. بعد أن استمرأ القتل وسيلة.. العنف لا يبني دولة أو وطناً، إنّه يؤدّيإلى الفوضى ويفكّك المجتمع، أيّاً كانت أهدافه.. إنّ استمرار ظاهرة العنف ومنثمّ العنف المُضاد هما اللذان يجعلان من الدعوة إلى اللاعنف ضروريّة وراهنيّةبإلحاح، خصوصاً أنّ ثقافة العنف هي السائدة، ويتطلّب الأمر تسليط الضوءعلى مخاطر العنف وردّ الفعل «العنفي» عليه في ثنويّة لا تنتهي، كأنّهامصارعة على الطريقة الرومانيّة، بحيث يتمّ القضاء على أحد المتصارعين، فيحين يصل الثاني إلى حدود الموت أيضاً، وهكذا سوف لا يكون أحد منتصراًوهو يمارس لعبة العنف التي ستحرق الجميع من دون استثناء. ثمّ من قال إنّالعنف ملازم للثورات بالمطلق؟..».
تجربتنا معاً في الجامعة، وفي لقاءات الصداقة، انطبعتْ بأسلوبك الأنيقالمنصرف إلى الحياة بسلاسة ومرونة. كلّنا نعلم أنّه ليس سهلاً على مَن انخرطباكراً في أيديولوجيّات مُحكَمة، ومُفعمة أحياناً كثيرة بخيارات العنف، أن يعودويخرج إلى ضوء المرونة والتجدّد. خلال معرفتي بالدكتور شعبان، رأيتُ فيه هذاالصحافي، الكاتب، المحلّل، الباحث، المنجذب إلى ما هو لامعٌ في الفكروالتجارب، الراوي الحافِظ لذاكرة شاسعة بإبهارٍ كأنّ في نصوصه رزنامة زمنودفتر أسماء وعناوين وحكايات وسرداً بكلّ الأحرف والأرقام، ومعها هذا الربطالشاغل باله بين السياسة والتاريخ والسوسيولوجيا والدين والنضال من النجفإلى الماركسيّة إلى القوميّة إلى حقوق الإنسان والحرّيات إلى اللاعنف.. وأعتقدأنّ إصراره على الشباب والحبّ والتنوّع والتثقّف والسلام، يكفي لكي نعرف منهو حسين شعبان. قلتُ له يوماً: شخصيّتُك تسير أمامك. وها أنا اليومأستعيدها، وأضيف، أنّ شخصيّته تطلّ علينا في كلّ مرّة بباقة مكنوناتها معاً،طفلاً وشابّاً وفي نضج السنين، كما في ثمانينه التي سنحتفل بها السنةالقادمة بألف خير.
اللقاء مع الفيلسوف مولِر
وفي رحاب الجامعة كان اللقاء الأول للدكتور شعبان مع فيلسوف اللاعنفالمعاصر، الفرنسي جان–ماري مولِر، صديق وليد صلَيبي مذْ التقاه عام 1989 في باريس. مولِر، أحد أبرز مؤسِّسي حركة اللاعنف في فرنسا، كان لنا الفضلفي إدخاله إلى العالم العربي على مدى ربع قرن منذ العام 1990، حيث دعوناهفي خلال سنواتها المديدة لغاية العام 2015، إلى لبنان مراراً وبشكل خاصفبات بلده الثاني كما يقول، ثمّ إلى سوريا وفلسطين والأردن والعراق. وهكذاتعرّف الدكتور شعبان على كتابات مولِر في فلسفة اللاعنف، مترجمةً إلى اللغةالعربيّة، بعد أن كان أطلق د.صلَيبي «سلسلة ترجمات اللاعنف إلى العربية»،منذ مطلع التسعينيّات، ومن ثمّ من خلال الجامعة بهدف بناء «المكتبة اللاعنفيّةالعربيّة»، ومن ضمن ذلك تسعة كتب وعشرات النصوص للفيلسوف مولِر باتتبمتناول العالم العربي بلغته وفي خدمته.
وربّما تلخّص كلمة جان–ماري مولِر في افتتاح مشروع الجامعة في 19 آب/أغسطس 2009 في لبنان، معاني تلك العلاقة التي جمعتنا به ومعاني الفلسفةالتي حملها وناضل من أجلها وقدّم لها فكره في 44 كتاباً.. حيث قال: «حينزفّ إليّ صديقاي أوغاريت يونان ووليد صلَيبي خبر تأسيسهما جامعة اللاعنفللمنطقة العربيّة، خلال لقائنا في تموز/ يوليو سنة 2008 في بيروت، تلقّيتالخبر بفرح عظيم. إنّ انبثاق هذه الجامعة هو ثمرة عمل دؤوب ومثابر عبر سنينطويلة، حفر خلالها وليد وأوغاريت درباً عريضةً وعميقة، ونثرا فيها بذوراً مناللاعنف. اسمحوا لي أن أُعرب عن تقديري واحترامي لتصميمهما ومثابرتهمااللذين سمحا لنا أن نجتمع هنا اليوم. أتيتُ في المرّة الأولى إلى لبنان في أيلولسنة 1990. وأتذكّر حينها أنّ الحرب لم تكن بعد انتهت بشكل كامل. وقدنصحني عدد من أصدقائي الفرنسيّين بعدم قبول دعوة اعتبروها خطرة جداً. بالطبع، لم أندم أبداً أنّني لم أستمع إليهم. وخلال الأسابيع التي أمضيتها فيلبنان، أُغرمتُ به ولا أزال.. أنا اليوم موجود بينكم بكثير من التأثر، تحرّكنيعواطف قويّة. لا أشكّ في أن جامعة اللاعنف سوف تُسهم في رفع هذا الفجرالجديد على العالم العربي. واسمحوا لي أن أُسِرّ لكم بوجهٍ خاصّ، كمْ أناسعيدٌ لكوني بقربكم أشارك في هذه المغامرة المثيرة..».
ومن الجميل أن أتذكّر هنا أيضاً زيارة وفد من جامعة اللاعنف وحقوق الإنسانإلى أربيل – كردستان العراق، وكان الدكتور شعبان المبادِر لها، وقد ضمّ الوفدالفيلسوف مولِر. زيارة مليئة بالاجتماعات واللقاءات المؤثِّرة في الجامعاتوالمراكز الثقافية ومع المسؤولين السياسيّين الرئيسيّين إلى نقاشات مع مثقفينوإعلاميّين، واتفاق مع مدرسة تأثرت إدارتها واختارت تحويلها مدرسة لاعنفيّة،إلى دورة تدريب أكاديمي على اللاعنف أولى من نوعها هناك لكوادر عليا فيوزارة الداخليّة وفي الهيئة الوطنية لمناهضة العنف ضدّ المرأة. وبالطبع، كانللفيلسوف مولِر محاضرة أساسيّة عن ثقافة اللاعنف. بعدها، نشرتَ في مقاللك ما استخلصته من كلام مولِر، في أنّ «اللّاعنف هو وسيلة نضاليّة وهو وسيلةكريمة بمقدورها تحقيق النصر حسب الفيلسوف مولِر. وأستحضر هنا ما قالهفي محاضرته في أربيل حين أعاد تأكيد دعوة ألبير كامو للتمرّد ضدّ العنف«أنا أتمرّد إذن نحن موجودون»، لأنّ التمرّد يتغلّب على كلّ ضغينة وحقد، كماأنّه لا يريد ولا يتمنّى أن يشقى أيّ إنسان من الشرّ الذي يتكبّده. فالتمرّدبرفضه للشرّ لا يستهدف جلبه لغيره.. إذن لا ينبغي الجزع أو قلّة الصبر بسببعدم استكمال ظروف التغيير، فذلك أشرف ألف مرّة من العنف والقتل، الذيستتزعزع به الحقيقة».
«نزع سلاح الآلهة» مع الفيلسوف مولِر
أمّا موعدك الآخر الجميل مع مولِر، فكان في صيف العام 2015، في الجامعةفي مبناها الأول في منطقة جبليّة رائعة، حين احتفلنا بإصدار الترجمة العربيّةلكتاب مولِر «نزع سلاح الآلهة – النصرانية والإسلام من منظور فريضةاللاعنف». حفل توقيع الكتاب رافقته ندوة تشاركنا فيها أنتَ وأنا، ثمّ نشرتَمقالاً عن تلك المناسبة، حيث استعدتَ مفاهيم جوهريّة طرحها مولِر: «نحنمدعوون إلى القطع مع العنف وإلى الوفاء لقيم اللاعنف.. هذا ما أكّده مراراًالفيلسوف مولِر في مؤلّفاته ولاسيّما في كتابه الأخير بعنوان «نزع سلاحالآلهة»، الذي احتفلت الجامعة بترجمته وإصداره باللغة العربيّة السبتالماضي، وهو واحد من المراجع والمواد في اختصاص «ثقافة اللاعنفوالأديان» الذي ابتكرته الجامعة وباشرت بتدريسه بمستوى ماستر.. يقول مولِربالتحديد: لئلّا يأخذنا الميل إلى رفض عنف الآخرين وليس عنف الذات أولاً،يجب علينا أن نبدأ بالقطع مع كلِّ ما في ثقافتنا ممّا يشرِّع العنف ويقدِّسه.. وهذه القطيعة ستكون موجعةً لأنها يجب أن تجري في العمق. وسنكتشف أننا،لكي نقطع مع ثقافة العنف، لا مناص في النهاية من القطع مع ثقافتنا.. نحننعي تماماً المصالح المستبدّة والخطط المدبَّرة للمنطقة لتفتيتها وارتهانها،ولاسيّما بالارتكاز إلى العنف الديني؛ أصحاب المصالح والنفوذ يعملونلمصالحهم، ونحن، لمصلحة من نعمل؟ أفضّل أن أتحدّث اليوم عن مسؤوليتنابالذات تجاه أنفسنا ومنطقتنا..».
وفي مقالٍ آخر لك، عدتَ وتابعتَ بعضاً ممّا طرحه في هذا الموضوع، حيثكتبتَ: «الفريضة أو الفضيلة التي يريد مولِر تعميمها، تمنحنا هذه القدرةالاستثنائيّة، من الحبّ والتطهّر والروحانيّة الإنسانيّة، وتقرّبنا من بعضنا علىنحو يتّسم بتعزيز المشترك الإنساني، سواء كنّا من أتباع الديانة النصرانية أومن أتباع الديانة الإسلاميّة، وسواء كنّا مؤمنين أو غير مؤمنين، ومتديّنين أو غيرمتديّنين، لكنّنا نجتمع تحت خيمة اللاّعنف ذات الطبيعة الإنسانيّة».
كتاب الفيلسوف مولِر هذا، هو حصيلة عشرين سنة له في البحث حول الأديانوالعنف واللاعنف، ولاسيّما في النصرانية والإسلام، أصدره سنة 2010 في703 صفحات. أمّا محاضرته الأولى عنه فكانت في لبنان، في العام نفسه،وفي جامعتنا بالذات، مع ترجمة أولى آنذاك إلى العربيّة لملخّص عنه، ومن ثمّترجمة للكتاب كاملاً وإصدار للنسخة العربيّة في طبعتها الأولى عام 2015. في تلك المحاضرة في صيف العام 2010، التي حضرها الطلاب بالطبع، وعددمن الأساتذة، وأصدقاء من الباحثين والمثقفين، شارك أيضاً عدد من رجال الدينالنصارى والمسلمين، بينهم شيخان كانا جاءا لدراسة اللاعنف في الجامعة بكلّتواضع، وباتا من دعاة اللاعنف في هذا العالم العربي.
الموضوع الديني شغل حسين شعبان، وهذا ما تُظهره مؤلّفات ومقالات متنوّعة لهفي هذا الإطار، ضمن مبادئ التنوّع وحرّية الاعتقاد. وهنا يحضرني كتاب لهبشكل خاص، كان أهداني إيّاه وشاركت في ندوة عنه في بيروت، حمل عنوان«أغصان الكرمة.. المسيحيون العرب». برأيي، إنّه كتابٌ عن العنف والإشكاليّاتالتي تواجه النصارى في وجودهم في المنطقة، حيث أعاد د.شعبان المفاهيمإلى جذورها، في التاريخ والمنطق وفي الطِّيبة، فكأنّي به قد أعاد النصارىوالمسلمين وأهل المنطقة كافّة إلى حقيقتهم وحقيقة ما يتوجَّب أن نكون، إلىجذور العدالة والمواطنة وحرّية الاعتقاد. يدلّنا كتابه هذا على عدم إمكانية أيّحلّ وأيّة استعادة لإنسانيّتنا في علاقاتنا بعضنا إزاء بعض كمواطنينمتساوين – أهل هذه المنطقة، من دون استعادة قيم اللاعنف والقطع مع جوهرالعنف. لذا نراه يدلّ على الجرح، ويذكِّر بـ»المِلح» لتطييب الحياة ونسيجهاالمجتمعي في بلداننا، من جديد، ويقول «المسيحيّون مِلحُ العرب». ومعه، نقولللمواطنين الفاعلين في المنطقة بفكرٍ منفتح وخياراتٍ إنسانيّة، إنّ مسؤوليّة قياممجموعات من المواطنات والمواطنين الملتزمين خيارات اللاطائفيّة وعدم التعصّبوالتطرّف، هي في عهدتنا، وإنّنا نحن أغصانٌ بالطبع، مزهرة ومثمرة وينبغيأن تثمر أكثر، على أنْ لا تتخلّى عن أغصانٍ رفيقاتٍ لها كُسِرت أو اقتُلِعت أوهُجِّرت أو اضطُهِدت.. فالألم موجودٌ، صحيح، لكنّ الكرمة التي نادى بها حسينشعبان موجودة ومعطاءة بالتأكيد.
حديثُ اللاعنف
رحلتك مع جامعة اللاعنف، معنا، باتت حديثك الدائم أينما حللت، وأنتَ فيديناميّة لا تتوقّف «ويتهيّأ لي أنّ كثيرين ربّما (يغارون) منها لجماليّتهاوتنوّعها». في كلّ الأمكنة التي يحلو لك أن تنثر فيها ما راكمته من خلاصات: في أسفارك، والندوات والمؤتمرات، والتكريمات، وفي الكتب والمقالات وعالمالصحافة، وفي المحاضرات الجامعيّة، والمقابلات الإعلاميّة، واللقاءات الأدبيّةوالثقافيّة، وفي الهيئات المحليّة والعربيّة التي أسهمت في تأسيسها و/أوشاركت فيها، وبطبيعة الحال في جلساتك وسهراتك.. أينما ذهبت وحللت، باتتكلمة اللاعنف رفيقتك، والجامعة عنواناً دائماً تنشر إنجازاته وفرادته وتدعو إلىأهميّة دعمه.
دورك كان أساسيّاً في جعل شخصيّات ومسؤولين سياسيّين وأكاديميّينيتعرّفون على الجامعة وعلى ثقافة اللاعنف من خلالك واحتراماً لمكانتك فيقلوبهم، حيث عقدتَ العديد من الاجتماعات في هذا البلد العربي وذاك،وبالأخص في بلدك العراق، وحفّزت الجميع على اكتشاف هذا الفكر وهذاالإنجاز لمجتمعاتنا. وأذكر كمْ كان فرحك كبيراً خلال احتفال الجامعة بإطلاق«تمثال اللاعنف العالمي» في بيروت، أول عاصمة عربيّة تحتضن هذا الرمزالمنتشر في ثلاثين مكاناً في العالم وأمام مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. كانذلك في 2 أكتوبر من العام 2018، حيث دعوتَ سفير العراق في لبنان وجلستُمابجانب حفيد المهاتما الكاتب والمحاضِر العالمي آرون غاندي، ضيف الحفل فيزيارته الأولى إلى لبنان بدعوة من الجامعة، والذي راح يدندن بالهنديّة، معالفنّانة عبير نعمة التي أحيت الحفل، أغنية كان يحبّها جدّه المهاتما غانديويردّدها في صلواته.. تلك ذكريات جميلة ومؤثِّرة، كنّا نعلم معاً مدى أهميّتهافي تأسيس ساحاتٍ عامّة باسم ثقافة اللاعنف، لتنتشر بين الناس، وليس فقطفي المستويات الفكريّة والأكاديميّة.
الثقافة والنقد
ركنٌ آخر في مسيرتك، والعلامة الأساس فيها، هو الثقافة ومعها النقد. لقدكتبتَ وحاضرتَ مراراً وطويلاً عنهما وعن واقعهما ورموزهما كما عن العوائقوالمحدوديّة في عالمنا العربي. في كلمتي هنا عنك وعن اللاعنف، سأكتفي بأنأستعيد من كتابك الصادر مؤخّراً تحت عنوان «الغرفة 46 سرديّات الإرهاب»،سؤالك حول «العنف والثقافة هل يلتقيان؟ الضفّتان هل تلتقيان؟». حين أجبتك،في ندوة تكريميّة لك في بيروت في فبراير الماضي تناولت هذا الكتاب لك وسواهربطاً بقضيّة فلسطين، قلتُ لكَ إنّ جوابنا معاً هو واحد، وإنّه بالطبع لا، لايلتقيان. فالثقافة هي زرعٌ، بينما العنف تدمير. الثقافة بناءٌ وتواصل، أمّا العنففأذىً وقطْعُ صِلات. وبرأيي، إنّ من أولويّات المثقّف، بالأخصّ المثقّف العضويالمناضل المحبّ للحياة، إعادة النظر في العنف. إنّها المهمَّة التي على عاتق كلّمنّا، ولاسيّما في ظلّ تنشئة ومفاهيم وتقاليد وأيديولوجيّات وتبعيّات دينيّةوسياسيّة وسواها، مجّدت العنف من حولنا أو جمّلته أو حتّى جعلته نهجاً لامجرّد وسيلة ظرفيّة. العنف والخير خطّان لا يلتقيان، فكلّ منهما من طينةنقيضة للآخر. القضايا المحقّة تحتاج إلى القوّة والشجاعة، إلى جرأة المقاومة. والقوّة ليست العنف. هذه العبارة التي لفتتكَ، حين سمعتني أقولها أول مرّة فيجلسة في الجامعة. نحن نحتاج أن نكون أقوياء لكن ليس عنيفين. ويتوقّف علىالثقافة أولاً أن تساعدنا في إعادة النظر للتمييز بين القوّة والعنف، في سائرمجالات الحياة. في آخر كتاب أصدرناه، وليد صلَيبي وأنا، عام 2020، بعنوان«أقوال في اللاعنف»، نشرتُ هذا القول توضيحاً لفكرتي: «لقد شوّهوا القوّةحين دمجوها بمعاني العنف. لقد جمّلوا العنف حين أضفوا عليه معاني القوّة. وها نحن نرتكب الإعدام ونقول (عدالة)، نرتكب جريمة عائليّة وعاطفيّة ونقول(شرف)، نعلن (السلام) ونرتكب الحرب، نعلن (اللجوء إلى القوّة) ونرتكبالعسكرة، نقول (ثورة) ونرتكب القتل، نقول (تربية) ونرتكب صفع الطفلوالطفلة.. إنّ مسؤوليتنا الثقافيّة الأولى هي في إعادة معاني شجاعة اللاعنفإلى القوّة، وجعل العنف مكشوف الاسم والمعنى كما هو».
كتابنا هذا الذي أهديتُك إيّاه، وكان موضوع مقال لكَ نُشِر في أكثر من صحيفةوموقع إعلامي، أردناه احتفاءً بمرور قرن على مصطلح «لاعنف» NON-VIOLENCE (1920–2020)، مُذ أطلقه غاندي لأوّل مرّة بعد أن اختمر عمقهالفلسفي في مسيرته الذاتيّة والفكريّة والنضاليّة (وكان ذَكر الكلمة في منتصفالعام 1919). لم يبتكر غاندي المصدر السنسكريتي لهذا المصطلح، المألوففي الهندوسيّة والجاينيّة والبوذيّة، «آهيمسا ahimsa: لا لأذيّة أيّ كائن حيّ»،بل ابتكر انطلاقاً منه كلمة جديدة في التاريخ، (لاعنف)، لتُضاف كفلسفة شاملةإلى التراث العالمي. إنّه كتابٌ مرجعيّ يبسّط الفكر والفلسفة عبر أقوال وعباراتمأثورة في اللاعنف، وكلُّ قول باللّغة العربيّة وبالإنجليزيّة أو الفرنسيّة. اكتفينابمئة وثمانية وسبعين قولاً، نتعرّف من خلالها إلى واحد وتسعين من الفلاسفةوالمفكِّرين والعلماء والأدباء والمناضلين الروّاد من سائر أنحاء العالم، كيفتكلّموا في اللاعنف، عن: القوّة، الحبّ، العدالة، التربية، السعادة، الضمير،العصيان، المقاومة، التغيير الاجتماعي، الاستراتيجيا، التحرّر الوطني، التمرّد،الطبقيّة، الفقر، التمييز، التعصّب، الحرّية، الحرب، السلام، الغاية والوسيلة،التواصل، الأنا الأصيل.. ولا يسعنا بمناسبة هذه المئويّة الأولى لمصطلح(لاعنف)، إلاّ أن نهنّئ مجتمعاتنا بتنوّع شعوبها، ومجتمعات العالم، بالرغبةالمتزايدة فيها، رغبة اللاعنف، ثقافةً وتربيةً ونضالاً. نعم، اللاعنف ينتشر بصدقوتُفتَح أمامه الأبواب، ولو أنّ البعض يتّخذه شكليّاً وآخرون لأغراضٍ ملتبسةومؤسفة. في البداية يهزؤون منه، يرفضون، يشكّكون، يضلّلون مَن يقترب مناللاعنف، يخوّنون ويهدّدون، لكنّ حيّز اللاعنف يكبر ومعه بات اللاعنفيّون فاعلينأكثر فأكثر.
يقول وليد صلَيبي: «نحن لسنا في عالم انتصر فيه العنف؛ نحن في عالم لمينتصر فيه اللاعنف كفاية بعد». أمّا مارتن لوثر كينغ فنبّه باكراً بالقول: «لم يعدالخيار بين العنف واللاعنف، بل بين اللاعنف واللاوجود».
كتبُك عزيزي الدكتور شعبان التي صدرت مؤخراً، وقد أهديتنا إيّاها، حملتتوقيعك وفيه كتبتَ: «إلى جامعة اللاعنف، هديّتي مع الاعتزاز بزمالة الفكرورفقة العمل والإخلاص للّاعنف». كتبك هي بالفعل كشفٌ لأسرار ومعلومات منمصادرها، أعطيتَ لها الكثير من وقتك وجهدك وحسّك البحثي وتنوّع علاقاتكوأسفارك ومقابلاتك مع الشخصيّات الصانعة تلك الأحداث، ومن كلّ هذااستخلصتَ مواقف تُدين عنف الخارج وتشير إلى هلاك الداخل، وتضيفتوضيحات تساعد على الوعي ونشر الوقائع، كما تتيح الحُجج بوجه السياساتالمهيمِنة والقرارات المضلِّلة. فتحيّة لك على توثيق التاريخ للعدالة.
لا بدّ من التوقّف أيضاً عند النقد
بالنسبة إلى د.شعبان «النقد هو «فكرٌ تعايشيّ تسامحي»، أو بتعبير آخر(لاعنفيّ)،لا يبغي استعراضاً للأنا ولا تربّصّاً بالغير، بل خطوة إلى الأمام». استعدتُ هذه العبارة من النص الذي أسهمنا فيه، وليد صلَيبي وأنا، في كتابعبد الحسين شعبان «تحطيم المرايا.. الحبر الأسود والحبر الأحمر» الصادرعام 2013. نتذكّره هنا، لكون النقد، بهذا المعنى بالذات، رافق حسين شعبانفي سيرته الشخصيّة والفكريّة والسياسيّة، ما أتاح له أن يُبحِر في التجدّد وإنْتناقض مع ما كان قد انتمى إليه. وهذه ميزة إنسانيّة بالدرجة الأولى. فيمساهمتنا هذه، كتبنا أيضاً: «يقول عن الماركسيّة إنّها «ثورة كبرى»، لكن دونالذوبان في حرفيّة ما كُتِب أو تكريس مرايا يعيها هو مسطّحة. وهذا ما جعلهينادي رفاقه والماركسيّين عموماً إلى «تحطيم المرايا» بغية إعادة إضاءة جوهرهذه الثورة بفلسفتها الإنسانيّة..». الهمّ الأساس عند د.شعبان، هو الدعوة إلىوضع حدّ للصنميّة والطقوسيّة ومحدوديّة المعرفة، أكان في الأيديولوجيّاتالسياسيّة كما الدينيّة على حدٍّ سواء. بالنسبة له، الدعوة إلى «التحطيم» هيدعوة إلى «النقد والتطوير» والإبداع، لا بمنطق الهدم والعنف، بل بمنطقٍ بنّاءلاعنفي بالذات. أمّا عن الحبّ فيقول: «أنا في حبّ دائم.. الحبّ هو معيارأنسنة الإنسان.. ما أعرفه هو أنّ الحبّ نقيض التسلّط.. أنا أعيش الحياة كماهي، وأتمنّى أن يعيش الآخرون حياتهم كما يريدون، لكنّ مؤشِّري، في هذاالمجال، هو حقوق المرأة التي لا تزال مهضومة..».
ويحلو لي هنا أن أعبّر عن تقديري وعاطفتي تجاه الصديق حسين شعبان، حينعرّفني على ابنتيه سوسن وثناء، وفهمتُ مذّاك بوضوح أكثر هذا التجسيدالفعلي لنزعته نحو اللاعنف، بالأخصّ سلوكاً وترجمةً لأفكاره في الحبّ والمرأةواحترام الخيارات الذاتيّة. جميلٌ جدّاً أن نراه في جلسة مع ابنته الحقوقيّةالمتميّزة وابنته الصحفيّة الشاعرة، علاقة أنسنة للجمال وللفكر لا «مرايا» تقاليدوثقافة عنفيّة معادية للفرح.
الإعدام
ومن القضايا التي شغلتك وهي في صميم الفلسفة الإنسانيّة وثقافة اللاعنف: مناهضة عقوبة الإعدام. أنتَ تعلم أنّنا أسّسنا أول حملة مدنيّة في لبنانوالمنطقة من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، منذ العام 1997، حملة وطنية شاملةوُصِفت بأنّها غير مسبوقة. وقد سُررنا حين قرأنا بحثك الموسّع المناهض كليّاًلهذه العقوبة وخلفيّاتها القانونيّة والسياسيّة وحتى الأيديولوجيّة، حيث كتبتَتقول: «الإعدام عنف، وهو وسيلة عنفيّة للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ، فهل القتلالثاني هو التعويض عن القتل الأول أمْ أنّ الهدف هو العدل والحقّ وتعويضالضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبةالإعدام، بحسب وليد صلَيبي المفكِّر اللّاعنفي الذي أطلق في كتابه «عقوبةالإعدام تقتل» (1997) قوله الشهير «جريمتان لا تصنعان عدالة». وعلى غرارذلك، سبق لي أنْ قلتُ «رذيلتان لا تنجبان فضيلة»، و«حربان لا تولّدان سلاماً» و«عنفان لا يحقّقان أمناً» و«انتهاكان لا يوفّران كرامة»، وعلينا البحث عنأسباب الجرائم والمسؤولين عن وقوعها اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاًوقانونيّاً، ومن خلال الثقافة السائدة بأبعادها الفكريّة والدينيّة والطائفيّة، فضلاًعن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة.. ولعلّ مثل هذه المسألة جديرة بأنتجعلنا نُعيد التفكير بإنسانيّتنا ولأجلها.. قد تطول مسألة اتّخاذ قرار بإلغاءعقوبة الإعدام، لكنّ الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشرثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقيّة، انطلاقاً منالقيم الإنسانيّة والضمير.. وهذا يمكن أن يولّد قناعة فرديّة وأخرى مجتمعيّة،حتى لعوائل الضحايا الذين يمكن أن ينخرطوا ضدّ عقوبة الإعدام، علماً بأنّالإيمان بالدين ينبغي أن يكون أخلاقيّاً ولعمل الخير لا لتبرير القتل، فالأديانهي للسلام وليست للعنف أو لمباركة القتل..».
بيروت
.. ذكرتُ في البداية أنّ سنوات مرّت بعد لقاءاتنا الأولى في أطر حقوقالإنسان.. إلى أن عرفتُ أنّك مقيم في بيروت. وكنتُ أعلم ما تعنيه لك هذه المدينةولبنان منذ طفولتك. وها أنت تتّخذ بيروت منزلاً لك.. وكمْ سررتُ وأنا أقرأ كلمتكفي حفل تكريمك في إطار المهرجان اللبناني للكتاب في سنته السادسةوالثلاثين في «الحركة الثقافيّة – إنطلياس»، بتاريخ 5/3/2017، حيث قلتَفيها: «لم يكن يفلتُ صيفٌ أو زيارة، إلا ويختارُ جدّي «حمود شعبان» مستقرّاًله بيروت، فخالي «ناصر شعبان»، ثمّ «جليل شعبان»، ثمّ «رؤوف شعبان»، ثمّالدكتور «ناهض شعبان».. وأستطيع القول إنّني عشتُ المدينة بكلِّ جوارحيلسِتّةِ عقودٍ من الزمان، أي مذْ عرفتُها في مطلعِ السّتينيات من القرن الماضي،وكنتُ أتردّدُ إليها باستمرار بما فيها فترة دراستي في أوروبا في مطلعالسبعينيات وحتّى خلال الحرب الأهليّة في لبنان. كنتُ أبحثُ في المدينةِ عنالمختلفِ واللامألوفِ من الكتب والصحفِ إلى المُغايرِ واللّاتقليدي من الأفلام،فأجد متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِوفي طريقة الحياة اللبنانيّة.. حين انتهت الحرب الأهلية وأُبرمَ اتّفاق الطائف،تكرّرت زياراتي لبيروت، وعندما قرّرتُ أن أترك لندن لم أفكّرْ أن أستقرَّ في أيّمدينة عربيّة غير بيروت، مع أنّ علاقتي بدمشق فيها الكثير من الحميميّة مثلماهي علاقتي الودّية مع القاهرة. وبغداد التي تسكنني.. مازالت بعين العاصفة.. إذن هي بيروت ذاتُ الأوتار الخاصة، وحيثما يشعر المرء بالحريّة فذلك وطنه. وكما يقول الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفان: «الوطن هو حيث يكونالمرء بخير»، وبيروت دائماً تجعلني بخير».
الصديق
أُنهي كلمتي بتحيّة منك إلى صديقك، الذي كان آخر ما كتبتُه له وعنه، بمناسبةزرع شجرة أرز باسمه تكريماً لذكراه، أرزة حملت الرقم 8141، فكانت عنوانمقالك الذي قلتَ فيه: «وجدتُ عبارة كارل ماركس «هنا الوردة فلنرقص هنا»،في كتابه «الثامن عشر من برومير»، الاستعارة الأجمل والانسجام الأمثل، وأناأشارك في وقفة الاستذكار، لزرع شجرة أرز في محميّة أرز الباروك فيالشوف، (16 أيلول/ سبتمبر 2023)، باسم د.وليد صلَيبي المفكّر اللاعنفيالمناضل الشجاع طوال مسيرته، الحائز على جائزة غاندي الدوليّة وجائزةالجمهوريّة الفرنسيّة لحقوق الإنسان.. حضوره اللّامرئي كان مؤثّراً وفاعلاً بكلّرقيّه وقناعاته وفكره وتفاصيله الصغيرة ومرحه أيضاً. زراعة شجرة الأرز تعنيزراعة الأمل والمحبّة والسلام، وهي دعوة إلى المجتمع اللبناني والعربي لنبذالعنف والطائفيّة.. دعوة إلى اللاعنف الذي لا يعني المهادنة على الحقّ أوالمساومة على العدل، بل إنّه تمسّك بهما.. ولعلّ كلّ من عرف وليد صلَيبي، وجدفيه شيئاً من شجرة الأرز بصلابتها وشموخها وجمالها.. وطفرتْ دمعة ساخنة من عينيّ، وكنتُ قد انتحبتُ مرّتين عند رحيل الصديق وليد في 3 أيار/ مايو2023، فقد شعرتُ أنّ جزءاً منّي غادر هذا العالم..».
+ There are no comments
Add yours