لم أكن أعرف أنني سأمضي اربعة أيام في رحلة فريدة في المعنى غنية بالمضمون لم يسبق لي اختبار مثليتها من قبل مطلقا.
غادرت جنيف ملبية دعوة السيد محمد المنصوري رئيس جمعية إبصار التونسية المعنية بالمبدعين من ذوي الاعاقة والمكفوفين للمشاركة بالمهرجان الدولي للموسيقيين والمبدعين من ذوي الاعاقة في نسخته السابعة والمنعقد بتاريخ 14 من شهر ايار من عام 2025 وحتى 18 منه
حطت بنا الطائرة مساءً فتوجهنا من فورنا الى منطقة الحمامات التاريخية والسياحية مخترقين شوارع العاصمة تونس شبه المعتمة استعدادا للنوم.
تحت شعار الفن بلا حدود , الانسان بلا حواجز, كان بهو فندق مارينا بلاس يستقبل الوافدين المشاركين والقادمين من سبعة عشر دولة بالإضافة لأعضاء الدولة المضيفة تونس, منهم من كان يتلمس طريقه بالعصا ومنهم من يتنقل مستندا على كتف مبصر, واخرون فوق الكراسي المدولبة يتنقلون في بهو الفندق الواسع الذي يتوسط المدخل العريض للفندق والحديقة الخلفية له التي اكتشفت جمالها صباحا.
في حفاوة لها روح الصداقة استقبلتنا المتطوعات وهن يتسابقن فيما بينهن لتقديم كل خدمة ممكنة لتوفير اكبر قدر ممكن لراحة الضيوف .
كان برنامج المهرجان حافلا حتى أنني فكرت بإستحالة تنفيذه كاملا, لكنهم تجاوزوا كل الصعوبات وفعلوها.
ابتدأ المهرجان فعالياته في الساعة السادسة من مساء يوم الاربعاء 15 من شهر ايار, بالافتتاح الرسمي بالنشيد الوطني التونسي الذي صاحبه عرض بلغة الاشارة بالغ الروعة والاحتراف حتى أنني لم أستطع منع دموعي أزاء التحفة الفنية التي قدمها ثلاثة عارضين , فهتفت في نفسي : يا الله ما احلاهم.. ومن هذا الجمال سأتجاوز روتين الكلمات الرسمية على أهميتها لوزيرة الثقافة وكلمة السيد محمد المنصوري رئيس جمعية إبصار , وكلمة السيد مدير مكتب التعاون السويسري التونسي وقد أفتتحها بلغة عربية سليمة نالت استحسان الحضور, لانتقل الى المبدعين المشاركين.
فمع كل مشارك كانت اسئلتي تتضاعف وإحساسي بالخجل من واقع معاناتهم يتعاظم , كيف أننا لم نلق بالا لهذه المواهب؟ من منا المبصر هنا ومن هو الكفيف؟ لماذا تهمل دولنا وحكوماتنا الالتفات لهؤلاء الناس المتعطشون للحياة رغم أنهم لا يشتكون ؟ كيف طورت هذه المواهب نفسها بنفسها دون رعاية تذكر من أي جهة رسمية ؟ كيف نتعامل نحن الاصحاء ممن نملك البصر معهم ؟ يا الهي لماذا لم نكن نراهم؟ واليكم أمثلة بسيطة لا أكثر وسأعتذر مسبقا لانها لن تشمل جميع المواهب طبعا , فقد قدم الطفل الكفيف محمد عزيز نفسه قبل عزفه على البيانو بكلمة تعريفية بثلاث لغات متقنة دون أدنى خطأ. ومثله وقدمت سمر شعبان فاصلا غنائيا منوعا ورائعا, و جاء عرض المطرب العراقي الكفيف نزار كاظم ليشعل القاعة بالتصفيق بعد أغنيته الرائعة أنا كفيف, لتختتم المشاركة البولونية باتريشيا مالونسكي الامسية بعرض اوبرالي باهر أحرق أكفنا تصفيقا لها.. وسأعتذر مخلصة من كل قلبي لبقية المشاركين الذين لن تتسع مساحة مقالي لأكتب عنهم راجية ان يتقبلوا بطيبة قلوبهم اعتذاري لأنني طرحت اسماء بعضهم كأمثلة لتبيان قوة المواهب المشاركة بالمهرجان وليس قصدا مني إهمالهم.
وفي إطار فعاليات المهرجان خصص اليوم التالي لتنظيم ندوة كانت في غاية الاهمية حفلت بمناقشات معمقة حول اتفاقية مراكش التي صادقت عليها 80 دولة ولم تشترك بها غالبية الدول العربية , تحدثت عن مفهومها واهدافها ومضامينها والاهم من ذلك عن واقع التهرب من تطبيقها ,وقد قسم وقت الندوة الى قسمين تناول الجزء الاول فيها مداخلات قانونية تناولت الجوانب الاجتماعية والقانونية والتواصلية لتقليص الفجوة المعرفية لذوي الاعاقة البصرية أو الحركية, إذ اختصت هذه الاتفاقية بتنظيم حياة واحتياجات ذوي الاعاقة على اختلاف انواعها وتسهيل حياتهم ومنع التمييز عنهم, وهنا أيضا لن يمكنني التحدث في هذا الحيز الضيق, عن البحوث والمناقشات الغنية التي اشترك بها نواب وقانونيين وصحفيات وصحفيين , لأنتقل الى تفاعل الحضور مع خطاب المحاضرين الذي كان حيا وذكيا وواعيا . أما القسم الثاني من الندوة فقد اهتم بمناقشة سبل الاستفادة من التطور العلمي والتقني وتيسير سبل الوصول والنفاذ الى الكتب وتسهيل ودعم تلك التي تعتمد لغة برايل لتمكين ذوي الاعاقة البصرية من اغتراف حاجتهم العلمية بسهولة أكبر.. وقدم فيها السيد الكيلاني بن حمودة ورقة بحثية في غاية الاهمية منطلقة من تناول فقرات اتفاقية مراكش نفسها في تمكين ذوي الاعاقة من الوصول للمعلومة والنفاذ الميسر الى الكتب الرقمية والتدريب على استعمال الاجهزة الالكترونية والتفاعل الايجابي مع التطورات التقنية والاستفادة القصوى مما تقدمه خدمة الذكاء الاصطناعي لتسهيل اغتراف ذوي الاعاقة لحاجتهم المعرفية من ميادين العلوم كافة.
كان يجب أن تكونوا حاضرين لتلمسوا بأنفسكم التعطش الشديد للعلم والقراءة من قبل المكفوفين وهم يطرحون اسئلتهم الباحثة بلهفة عن التطبيقات التقنية الحديثة وعن طرق التعلم وعن الاساليب التي عليهم اتباعها للوصول الى المعلومات.
كان يجب أن تكونوا حاضرين جميعا لتشهدوا كيف يحاول الضرير أن يكون حاضرا بالحياة ومتفاعلا معها, وليس ناقما عليها, لتسمعوا بأنفسكم وتشعروا بالحرقة التي شعرتها وأنا أستمع لحكايات الرفض المجتمعي لهم وهم يحاولون الاندماج بالحياة العملية كي لا يكونوا عالة كما يظنهم بعض الناس، ناهيك عن الرفض الوظيفي الذي يرزحون بشجاعة تحت وطأته.
كان يجب أن تكونوا جميعا حاضرين لتشعروا معهم وأنتم تراقبونهم معنى التغلب على الصعوبات فكل ما هو سهل هين علينا هو عناء لهم. كنت أراقب طلال وهو مغني راب يعاني من اعاقة حركية وهو يحاول جاهدا الصعود بعجلته الى دكة الرصيف وعندما حاولت تقديم مساعدة له اعتذر مني كي لا يتعبني بها, لكنه بعدما بذل مجهودا كافيا تجاوز صعوبة تسلق الرصيف بكرسيه المتحرك وصعده بنفسه مبتهجا ومبتسما ولسان حاله يقول انتصرت .
كان يجب أن تكونوا جميعا معي لتروا بأنفسكم تلك الارواح التي لها شفافية ورقة أجنحة الفراشات وهي تحلق مغتبطة لسانحة زمن أشعرتهم بإنسانيتهم وأحيت بهم شعورهم بالحياة, وأنا معهم كنت أسأل نفسي كل لحظة كيف أنهم لا يكفون عن الابتسام لوجوه لا يرونها لكنهم يشعرون بقربها منهم فيبتسمون لها,
كان يجب أن تكونوا حاضرين لتروا أنهم وإن كف عنهم بصرهم فأن قلوبهم ترى وأرواحهم مبصرة. شكرا جمعية إبصار.. شكرا لأنكم منحتمونا فرصة أن نراكم ونبصركم كما يجب.
+ There are no comments
Add yours