قراءة في ضوء كتاب (اللغويات الاجتماعية في العصر الرقمي) لدانيال دينكلمان..

كتَب / تحسين الشيخلي
قضيت مساء أمس في دراسة كتاب دانيال دينكلمان اللغويات الاجتماعية في العصر الرقمي: تطور اللغة الرقمية وتشكيل الهوية، الذي يناقش قضايا أساسية مثل تبديل الرموز عبر الإنترنت، ولغويات وسائل التواصل الاجتماعي، وتحليل الخطاب فيما يتعلق بديناميكيات قوة المجتمع. دفعني هذا الكتاب إلى التفكير بعمق في العلاقة المعقدة بين اللغة الرقمية والهوية، وكيف يمكن لهذا المجال أن يسهم في تطوير هندسة اللغة الطبيعية واللغويات الحاسوبية في عالمنا العربي.
أحد مشاهد العصر الرقمي هو التحول الجوهري في طبيعة التواصل البشري وأشكال التعبير اللغوي، مما يفرض تحديات وإمكانيات غير مسبوقة على مجالات اللسانيات الحاسوبية (Computational Linguistics) وهندسة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing – NLP). وتأتي دراسة دانيال دينكلمان الموسومة (اللغويات الاجتماعية في العصر الرقمي: تطور اللغة الرقمية وتشكيل الهوية: تبديل الرموز عبر الإنترنت، ولغويات وسائل التواصل الاجتماعي، وتحليل الخطاب فيما يتعلق بديناميكيات قوة المجتمع) لترسم خارطة طريق حيوية لفهم هذه الديناميكيات المعقدة. لا يقتصر دور هذا العمل على وصف الظواهر اللغوية الجديدة فحسب، بل يقدم إطاراً نظرياً وتطبيقياً غنياً يملك تداعيات عميقة على كيفية تصميم وتطوير وتقييم أنظمة هندسة اللغة الطبيعية التي تهدف إلى فهم اللغة البشرية والتعامل معها آلياً. تهدف هذه المقالة إلى استكشاف التقاطعات الخصبة بين رؤى دينكلمان حول اللغويات الاجتماعية الرقمية وبين الأسس والتحديات العملية التي تواجه اللسانيات الحاسوبية وهندسة اللغة الطبيعية، مع التركيز على كيف يمكن لهذا الحوار بين التخصصات أن يثري كلا المجالين.
يركز دينكلمان على الطبيعة الديناميكية والمتطورة للغة في الفضاءات الرقمية. فهو لا ينظر إلى (اللغة الرقمية) ككيان ثابت أو منفصل، بل كاستمرارية معقدة للتجارب اللغوية البشرية، تتشكل ويعاد تشكيلها باستمرار من خلال الممارسات الاجتماعية والتقنيات المنصاتية والسياقات الثقافية. هذا الفهم الجوهري له تداعيات فورية على اللسانيات الحاسوبية. فمعظم أنظمة معالجة اللغة الطبيعية التقليدية NLP تعتمد على نماذج إحصائية أو عصبية تدرب على مجموعات بيانات ضخمة ولكنها غالباً ما تكون مجردة من سياقاتها الاجتماعية والتاريخية والتفاعلية الحقيقية. يذكرنا دينكلمان بأن اللغة في العالم الرقمي هي (فعل اجتماعي (social action) قبل كل شيء. التغريدات، والتعليقات، والمنشورات، والرسائل الفورية ، كلها ليست مجرد سلاسل نصية بل هي أفعال كلامية (speech acts) تحمل نوايا، وتقامر بمكانة اجتماعية، وتفاوض على العلاقات، وتشارك في بناء الهويات. تجاهل هذه الأبعاد الاجتماعية في نماذج NLP يؤدي حتماً إلى أنظمة سطحية، معرضة للخطأ السياقي، وقد تعيد إنتاج التحيزات أو تفشل في فهم الفروق الدقيقة في المعنى والنية.
يقدم مفهوم (تبديل الرموز عبر الإنترنت) (Online Code-Switching) الذي يحلله دينكلمان بأبعاده المتعددة، تحدياً مهماً وفرصة ثمينة لهندسة اللغة الطبيعية. يظهر التبديل الرمزي في الفضاءات الرقمية بأشكال متنوعة، خلط اللغات (مثل العربية والإنجليزية في (عربيزي) أوFrançais , والتنقل بين أنماط التسجيل (الرسمي مقابل العامي)، واستخدام اللهجات المحلية، ودمج رموز ثقافية محددة (ميمات، إيموجي، هاشتاقات)، والتكيف مع قواعد جماعة معينة عبر الإنترنت. يوضح دينكلمان كيف يكون هذا التبديل أداة فعالة في تشكيل الهوية (Identity Formation) ، حيث يستخدمه الأفراد لتحديد انتماءاتهم، وتحدي المعايير، وإدارة الانطباعات، والتفاوض على مواقفهم داخل شبكات القوة الاجتماعية. بالنسبة لمصمم أنظمة NLP، يطرح هذا تحديات هائلة في (التجزئة اللغوية (Tokenization))، و(وضع العلامات النحوية (POS Tagging))، و(تحليل المشاعر (Sentiment Analysis))، و(التعرف على الكيانات المسماة (NER))، و(الترجمة الآلية (MT)). كيف يمكن لنموذج تم تدريبه أساساً على اللغة العربية الفصحى الحديثة (MSA) أن يفهم تعليقاً يخلط بين MSA واللهجة العراقية او المصرية او السورية العامية والإنجليزية؟ كيف يمكن لنظام تحليل المشاعر أن يلتقط السخرية أو التهكم الذي يعتمد على تبديل الرموز الثقافية؟ نماذج NLP التي تتجاهل هذه الظاهرة أو تحاول (توحيد) المدخلات بقوة تفقد قدراً هائلاً من المعنى السياقي وتقوّض فعاليتها في العالم الحقيقي. تشير رؤى دينكلمان إلى الحاجة الماسة لتطوير نماذج أكثر (مرونة (Adaptive)) وحساسية للسياق (Context-Aware) ، قادرة على التعرف على تبديل الرموز وتفسيره ديناميكياً، وربطها بالسياق الاجتماعي والهويات الناشئة.
يتطلب هذا جمع بيانات أكثر تنوعاً وتضميناً للسياق، وتطوير معماريات نمذجة (مثل النماذج متعددة المهام أو المتعددة اللغات/اللهجات) قادرة على التعامل مع التهجين اللغوي.
في مجال لغويات وسائل التواصل الاجتماعي (Social Media Linguistics) وتحليل الخطاب (Discourse Analysis) الذي يناقشه دينكلمان فيما يتعلق بديناميكيات قوة المجتمع (Community Power Dynamics) ، نجد بُعداً حاسماً آخر لربط النظرية اللغوية الاجتماعية بالممارسة الحاسوبية. تحلل اللغويات الاجتماعية الرقمية كيف تنشأ وتتطور أنماط لغوية مميزة داخل مجتمعات ومنصات محددة، وكيف تعكس هذه الأنماط وتعيد إنتاج هياكل القوة والسلطة. كيف يتم تأطير القضايا؟ من المسموح له بالتحدث؟ ما هي الاستراتيجيات البلاغية المستخدمة للتأثير أو الإقصاء؟ كيف تبنى الروايات الجماعية؟ يسلط دينكلمان الضوء على كيفية استخدام اللغة كأداة للإقصاء أو التمكين، وكيف تعكس التبادلات عبر الإنترنت التفاوتات الاجتماعية القائمة (العرق، الجنس، الطبقة، الجغرافيا) وتخلق أشكالاً جديدة منها. بالنسبة لهندسة اللغة الطبيعية، يترجم هذا إلى الحاجة الملحة لنماذج أخلاقية وعادلة (Ethical and Fair NLP). الأنظمة التي تتعلم من بيانات وسائل التواصل الاجتماعي دون فهم ديناميكيات القوة الكامنة وراء هذه البيانات معرضة بشدة لتعلم التحيزات وتضخيمها. تحليل المشاعر الذي يسيء تفسير اللهجات غير القياسية، أو تصنيف المحتوى الذي يقوم على قمع أصوات المهمشين، أو أنظمة التوصية التي تعزز خطاب الكراهية عن غير قصد ، كلها أمثلة على عواقب تجاهل هذه الديناميكيات. توفر اللغويات الاجتماعية الرقمية، كما يعرضها دينكلمان، الأدوات المفاهيمية (مثل تحليل الإطار، نظرية التمثيل، تحليل الحجاج) لفهم هذه العمليات بشكل أعمق، وبالتالي تصميم أنظمة NLP تضمين آليات للكشف عن التحيز، والتخفيف منه، والشفافية في صنع القرار، واحترام التعددية اللغوية والثقافية. يجب أن يصبح تحليل ديناميكيات القوة جزءاً لا يتجزأ من خط أنابيب تطوير NLP، من جمع البيانات وتنقيتها (Data Curation) إلى التدريب والتقييم.
يتطلب استيعاب هذه الرؤى من عالم اللسانيات الاجتماعية الرقمية في قلب هندسة اللغة الطبيعية تحولاً في (فلسفة النمذجة). بدلاً من السعي وراء (نموذج شامل) واحد يحاول التقاط كل شيء (وهو مسعى شبه مستحيل في ضوء تعقيد وتنوع اللغة البشرية)، تشير رؤى دينكلمان إلى قيمة تطوير أنظمة نمذجة سياقية متخصصة (Contextualized and Specialized Systems). قد يعني هذا نماذج مصممة خصيصاً لأنماط محددة من تبديل الرموز في منصات معينة، أو أنظمة تركز على فهم الخطاب داخل مجتمعات رقمية محددة مع مراعاة قواعدها وقواها الخاصة. يتطلب هذا أيضاً اعتماد منهجيات بحثية متعددة التخصصات بشكل حقيقي، حيث يعمل اللغويون الاجتماعيون، وعلماء الحاسوب، وعلماء الاجتماع، والمختصون في الأخلاقيات جنباً إلى جنب طوال دورة حياة المشروع. إن جمع البيانات والتعليق عليها (Annotation) يجب أن يسترشد بالفهم اللغوي الاجتماعي للسياقات التي نشأت فيها هذه البيانات، وليس فقط بالاعتبارات التقنية. يجب أن يصبح التقييم (Evaluation) أكثر شمولاً، يتجاوز مقاييس الدقة الإحصائية المجردة مثل الـ F1-Score ليشمل تقييمات جودة السياقي، والإنصاف، والقدرة على التعامل مع التبديل الرمزي، ومدى نجاح النظام في التقاط النوايا والأفعال الكلامية ضمن ديناميكيات القوة.
يقدم كتاب دانيال دينكلمان (اللغويات الاجتماعية في العصر الرقمي) أكثر من مجرد وصف للظواهر اللغوية الجديدة، فهو يطرح إطاراً نظرياً عميقاً لفهم اللغة كظاهرة اجتماعية تقنية معقدة ومتطورة باستمرار في قلب الحياة الرقمية. إن رؤاه حول تطور اللغة الرقمية، وآليات تبديل الرموز في تشكيل الهوية، وتحليل خطاب وسائل التواصل الاجتماعي عبر عدسة ديناميكيات القوة المجتمعية، ليست ذات أهمية أكاديمية بحتة للغويين الاجتماعيين. إنها تمثل دعوة ملحة وإرشاداً لا غنى عنه لمجتمع اللسانيات الحاسوبية وهندسة اللغة الطبيعية. إن تجاهل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياقية والسلطوية للغة، كما يحذر دينكلمان ضمناً، يؤدي إلى أنظمة NLP قاصرة، معرضة للتحيز، وفاشلة في تحقيق فهم حقيقي للغة البشرية في سياقاتها الطبيعية. مستقبل تطوير أنظمة اللغة الآلية الفعالة والمسؤولة والأخلاقية يكمن في قدرة المهندسين والباحثين على استيعاب هذه التعقيدات الاجتماعية اللغوية ودمجها في صميم عمليات النمذجة والتصميم. إن الحوار بين اللغويات الاجتماعية الرقمية وهندسة اللغة الطبيعية ليس ترفاً أكاديمياً، بل هو ضرورة منهجية وعملية لبناء أنظمة ذكاء لغوي تستطيع حقاً فهم الإنسان في عالمه الرقمي المعقد والمتغير. كتاب دينكلمان، بتركيزه الثاقب على التفاعل بين اللغة والتقنية والمجتمع والسلطة، يضع حجر الزاوية لهذا الحوار الحيوي والمستقبلي.
يعد كتاب دينكلمان مساهمة مهمة في فهم التفاعلات بين اللغة والتكنولوجيا الرقمية، ويوفر رؤى قيمة للباحثين والممارسين في مجالات اللغويات الحاسوبية وهندسة اللغة والاجتماع. من خلال استكشافه لتطور اللغة الرقمية وتشكيل الهوية، يقدم الكتاب إطارًا لفهم كيفية تأثير البيئات الرقمية على اللغة والمجتمع، مما يساهم في تطوير تطبيقات لغوية أكثر دقة وفعالية في العصر الرقمي.
بالنسبة للباحثين في مجالات اللغويات الحاسوبية وهندسة اللغة والاجتماع، يوفر الكتاب إطارًا نظريًا وتحليليًا لفهم التفاعلات بين اللغة والتكنولوجيا الرقمية، ويشجع على تبني مناهج متعددة التخصصات لدراسة هذه الظواهر. كما يسلط الضوء على أهمية فهم الديناميكيات الاجتماعية والثقافية التي تؤثر على استخدام اللغة في البيئات الرقمية، مما يساهم في تطوير تطبيقات لغوية أكثر شمولاً وفعالية.
+ There are no comments
Add yours