صدر مؤخراً كتاب حمل عنوان “مولعُ بزياد” عن داري “تكوين” و “الرافدين” للأديب والناقد والصحافي العراقي علي عبدالأمير عجام.
في مقدمة كتابه أجاب عجام، الذي سبق له أن أصدر ثلاثة كتب في نقد الموسيقى ودراستها، لماذا العنوان “مولعٌ بزياد”؟ وما الفكرة والمحتوى؟ فكتب:
في أيام تفتح تجربتي الثقافية، سبعينيات القرن الماضي، اقتنيت كتاب “مولعٌ بفاغنر” لمؤلفه الكاتب البريطاني الشهير جورج برنارد شو وبترجمة محكمة من المفكر والكاتب ووزير الثقافة المصري ثروت عكاشة. أدهشني العنوان (في مقدمة المترجم للكتاب توضيح جميل لاختياره العنوان بدلأً من الأصلي “فاغنر المثالي” الذي وضعه شو لكتابه وجاء بعد سلسلة من المقالات التي عرف بها كناقد موسيقي) وفعل المحتوى أكثر من ذلك. لاشك أن تأثراً كبيراً بموسيقى فاغنر من قبل الأستاذ الكبير عكاشة هو مادفعه إلى نحت هذا العنوان الأثير، وحسناً فعل ذلك.
هنا أستعير من ذلك الكتاب المرجعي، عنوانه الجميل والملهم، لما فعله بي زياد الرحباني من تاثير جمالي نقل معه قصة حداثة الموسيقى العربية من مستوى النقاش المحتدم والرفض الجاهز لها إلى التحقق فعلياً، بل قطف ثمارها عبر نغم جميل يتصل بالآخر الغربي لكن دون أن يدير ظهره لموروثه الأصيل ولا هويته الشرقية. لذا كان “مولعٌ بزياد” عرفاناً بالجوهر الفائق الجودة لـ “زياد الاستثنائي” لا كما في العنوان “فاغنر المثالي” وحسب.
تفاصيل من هذا الكتاب وعنوانه كانت ضمن مسودة كنت اعددتها للنشر في العام 1996، أثناء إقامتي في عمّان، وبعد محاضرة في “غاليري الفينيق”، الشهير بضيوفه ونشاطاته الثقافية الرصينة، وتناولت فيها جوهر تجربة صاحب “انا مش كافر” الموسيقية، تلحيناً وكتابة نصوص وغناءً وقبل كل ذلك تأليفاً موسيقياً. سبقت تلك المحاضرة مثيلاتها في بغداد (إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين 1988) و(منتدى الأدباء الشباب1992) و(اتحاد أدباء بابل 1993). فضلاً عن سلسلة مقالات نشرتها في العاصمتين العراقية والأردنية. كانت البداية مع مقالة في مجلة “فنون” البغدادية العام 1986 وسط حذر ليس بالقليل، فزياد الرحباني إسماً وتياراً فنياً يثير الشبهات في أوساط المؤسسة الثقافية حينذاك فهو عرف “متمرداً شيوعيا” بينما دماء الشيوعيين العراقيين طرية في سجون نظام صدام ومقابره، فوافق رئيس التحرير الناقد والكاتب الأستاذ محمد الجزائري (رحل في بروكسل 2015) على نشر المقالة شرط توقفها عند الجانب الموسيقي المحض والذي كان مقاماً بالأساس على إسطوانة “هدوء نسبي” الصادرة في بيروت في العام 1985 وتحصلت عليها عبر صديق طيّار مدني، لا كان مبتلياً بشرور الحرب مثلي ولا مشمولاً بمنع السفر مثل كل العراقيين.
في الأسطوانة تلك التي حملت عنواناً ثانوياً هو “جاز شرقي”، وهو الذي أصبح لاحقاً تعبيرا مرفوضاً من قبل الرحباني فـ “موسيقى الجاز هي واحدة لا حدود للتفريق في أصولها”، تناولت الجانب التأليفي وآفاقه ودلالاته في تجربة مؤلفها، ومعنى تقديم “موسيقى مجردة” في فضاء من التلقي التقليدي الذي يختزل الموسيقى بالأغنية!
ألهمتني تلك الاسطوانة إيما إلهام وأسندت روحي وهي تتلظي في نيران الحرب حتى وصلتني نسخة من “أنا مش كافر” لتكون بمثابة نافذة فسيحة أخرى أطل من خلالها على زياد الرحباني وقوته التعبيرية الفريدة الهائلة في صوغ وقائع الحرب الأهلية اللبنانية في سياق فني متماسك نقدي فكريا ونغميا لم يتنازل عن شرطه الإبداعي: الموسيقى ولا شيء غيرها. هنا، ودائماً في سياق أعماله وصولاً إلى اسطوانة” إيه في أمل” للسيدة فيروز 2010، تناولت تلك الموجات من التحديث اللحني، بل التجريب في أحيان كثيرة لاسيما في أشكال العرض الموسيقي الحي (الحفلات) وما يصاحبها من روح الابتكار والارتجال (هي روح موسيقى الجاز إن شئت)، وهو ما سنعرضه بكل شؤونه وشجونه في الفصل الأول من هذا الكتاب.
ويرى صاحب كتاب “رقصة الفستان الأحمر الأخيرة- سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى” الصدر في عام 2017 أنه “لايمكن بحث تجربة زياد الرحباني دون التوقف بعمق عند تلك النقلة الجوهرية للغناء الفيروزي التي أحدثها بجرأة يحسد عليها وبدأت فعلياً مع اسطوانة “وحدن” 1978 وواصلها بقوة لاحقاً مع “معرفتي فيك” 1987، مثلما هي جرأة حقيقية أظهرتها صاحبة “نحنا والقمر جيران” حين غادرت منصتها الأثيرة التي بنتها اعتمادا على ألحان ونصوص الأخوين عاصي ومنصور الرحباني لتمضي نحو آفاق تعبيرية مختلفة كلياً مع زياد الأبن وما تتطلبه مع مستويات أداء لم تعهدها من قبل، وهو ما سنفصله لاحقاً في الفصل الثاني من الكتاب”.
ويواصل صاحب كتاب “إشراق- بحث في التجربة الفنية والانسانية لنصير شمّة” الصادر في عام 2013 ، الحديث في مقدمة كتابه الجديد: “كان لغياب زياد الرحباني ووقعه شديد القسوة، حين يتزامن مع هزائم كبرى لحقت بالانسان والبلدان في منطقتنا وبالفكرة الجوهرية التي سطّر وفقها صاحب ألحان “كيفك أنت” سيرته فنانا طليعياً ومن نوع غير معهود في عالمنا العربي، أن جعلني أفكر: ماذا أكتب، بمَ أعلّق وكيف أكتم حزني الناطق المختلط بحزن امرأة حياتي التي لطالما شاركتني أجمل الأوقات في الاستماع لموسيقى زياد في زياراتنا لبيروت ونوادي الجاز في الحمرا والجميزا، بل ماذا أقول لابنتي التي كانت أول اغنية رددتها، وهي في الثالثة من عمرها، أغنية من ألحان صاحبنا الموهوب المدهش المنطلقة عبر مكبرات الصوت في سيارتنا الصغيرة أو بيتنا؟ لذا أهديته إلى ابنتي التي باتت تعرف زياد الرحباني وفيروز أكثر مما يعرف متذوقون للموسيقى في منطقتنا”.
+ There are no comments
Add yours