لم أجد ضالتي، وأنا بكامل نشوة الشدّ ودهشة الإبهار، لحظة شروعـي في كتابة مقالي عن منجز المفكر الكبير الدكتور عبدالحسين شعبان في سفره الجديد “جواهر الجواهري”، الصادر مطلع عام 2024 عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع في الكويت. كنت أبحث عن مدخل يليق بمقام الكتاب ومبدعه، غير أنني وجدت ضالتي في ما خطّته الشاعرة الكبيرة الدكتورة سعاد الصباح، صاحبة الدار، حين نحتت بكلمتها التقديمية عبارةً مدهشة: “ضوءٌ غيرُ قابلٍ للخُفوت”، فاستعرتها عنواناً لمقالي هذا، اعترافاً بأن أسمى أشكال الإعجاب هي أن نُقلِّد ما يُبهرنا.
لقد أضاءت كلمة الدكتورة الصباح مدخل الكتاب كما لو أنها إشعاعٌ يتسرّب إلى أعماق المعنى، كاشفةً عن جوهر العلاقة بين الجواهري وشعبان، بين الشعر والفكر، بين الحلم والحرية. تقول في مقدمتها:
“كيف يستطيع أولئك الأشخاص الذين يبدون لأول وهلة أناساً عاديين، أن يحلّقوا عالياً فوق الجميع ليحققوا إنجازاتٍ رائعة تغيّر من شكل الحياة؟”
بهذا السؤال، فتحت الشاعرة باباً للتأمل في جوهر الإبداع الذي يتجاوز المألوف، مؤكدة أن ما لا يستطيع الشاعر تغييره في العالم، يمكنه أن يغيّر به رؤية الإنسان للعالم، وهي عبارة تختصر فلسفة الجواهري كما قرأها الدكتور شعبان، وفلسفة الشعر في آنٍ معاً.
جاء الكتاب في حلةٍ فخمة وإخراجٍ بهيّ يليق بمقام الشعر وتأريخه، جامعاً خلاصة جهدٍ فكريٍّ وبحثيٍّ امتدّ لعقود، إذ سبق للمفكر العراقي أن أنجز دراسات رائدة عن الشاعر العربي الكبير مثل: “الجواهري في العيون من أشعاره” و**”الجواهري: جدل الشعر والحياة”**، قبل أن يقدّم في هذا الإصدار الجديد خلاصة تأملاته حول جدلية الشعر والوجود في مسيرة “أبا فرات”.
وفي المقابل، تبدو شهادة الدكتورة الصباح أكثر من تقديمٍ لكتاب، بل هي تأملٌ شعري في معنى الخلود. فهي ترى أن الجواهري “ولد كما لو أنه عودةٌ كلية إلى النصّ المشترك، الذي يتحوّل فيه الشاعر من أنانية الصوت الذاتي إلى صوت الناس”، وتضيف في إشارتها إلى الدكتور شعبان:
“هو الرجل الذي ركب القلق… قلق الفكرة وقلق قبول الآخر، وكان شاهداً على تجربة الجواهري، رصدها عن قُرب وعن بُعد، ليخرج بهذا السفر الذي تعتز دار سعاد الصباح بأن يكون ضمن إصداراتها.”
بهذا التلاقي بين شاعرٍ ومفكرٍ وناشرةٍ وشاعرةٍ، تتجلى معاني “الضوء الذي لا يخفت”، ضوء الكلمة التي تؤمن بأن الثقافة ليست ترفاً، بل مقاومة ضدّ العتمة، وأن الإبداع الحقيقي هو ذاك الذي يضيف إلى الوعي الإنساني نبضاً من حرية، ولمسة من جمال.
+ There are no comments
Add yours