أمسية البنفسج

د. ريم عبد الغني

استقرّت عيناي عند اسمها في نهاية الرسالة، وازداد إعجابي القديم بها حينوجدتُ الشيخة د.سعاد الصباح تدعوني إلى المساهمة في الكتابة عن الدكتورعبد الحسين شعبان، لتكريمه من قبل مؤسستها في برنامجها المُعَدّ لتكريم كبارالمثقفين العرب في حياتهم، كما فعلت مع نزار قباني وثروت عكاشة وغسانتويني وغيرهم من الأدباء والمفكّرين.

وجدتُ في اختياري لهذه المهمة تقديراً، وقررتُ أن أكتب. صحيح أني لم أتعرّفشخصياً على د.شعبان، إلّا في السنوات الأخيرة، لكن هل تُقاس المعرفةبالزمن؟ هناك من لا تحرك سنوات معهم أقلامَنا، بينما تُشرق شموس أرواحنالمن يلهموننا في وهلة وحي أرواحهم المتوهجة، فتجرّنا بعض تفاصيلهم إلىالدَّرْك، فيما يُحلّق بنا بعضها إلى أقصى «درب التبّانة».. وأحسبُ الدكتور عبدالحسين من هؤلاء.

مذ خطَونازوجي وأناداخل تلك الشقة الدافئة في منطقة الجناح في بيروت،تلبيةً لدعوة كريمة من الدكتور شعبان، تذكرت مقولة مارغريت ثاتشر، رئيسةوزراء بريطانيا: «أفكارك تشكّل واقعك ومستقبلك وقدرك»، أو بحسب نظريةكتاب «السر»، نحن نشكّل ما يحيط بنا بما تبثّه عقولنا. وعلى الرغم من أنّالدكتور عبد الحسين استثنائي في نواحٍ كثيرة، ولكنه ليس استثناءً لتلكالقاعدة، فعالمه أيضاً يشبهه.. على الأقل بيته.      

لوحات متنوعة تملأ الجدران، بعضها لرسامين معروفين، وبعضها لأصدقاءأهدوه رسومهم تعبيراً عن المحبة أو العرفان، كالسيدة جواد التي تعيش اليومفي إسبانيا، والتي رسمت له لوحة تجريدية جميلة، ولوحة عبد الإله لعيبي، بابالذهب لمرقد الإمام علي.

«هناك تحت الباب نفسه مرقد جدي»، أخبرني حين وجدني أتأمل هذا الباببدهشة وإعجاب. «فقد كان لعشيرة آل شعبان رئاسة الخدمة في حضرة الإمامعلي (رضي الله عنه) منذ قرون. وعائلتي يعود أصلها إلى (جبل النبي شعيب) في اليمن».

من اليمن! لا عجب إذن أن نلتقي. فقد آمنتُ منذ زمن بأنّ قدري يختبئ بينحروفها. تأملتُ رسم لوحة شجرة العائلة بإعجاب. عشرات الأجيال تعود إلىعدة قرون، لكنها جميعاً أسماء ذكور.

مهلاً، ما هذه الإضافة باللون الأزرق في أعلى يسار الشجرة؟ يد رسمت فرعاًإضافياً انبثق من اسم عبد الحسين، ليتفرع إلى اتجاهين، كُتب على أحدهماسنا، وعلى الآخر سوسن، وفهمت أنّ ابنتيه أضافتا اسميهما باليد. هذاإنصاف، لماذا تنقطع شجرتنا ويقف امتدادنا إذا لم نُنجب ذكوراً؟ سلالة سيدالخلق وآل البيت جميعاً، أليسوا من فاطمة رضي الله عنها ابنة الرسول الذي لميعش له أبناء ذكور؟

جُلتُ بالبصر بين ضيوفه، فكرت أنهم يشبهونه أيضاً. رجال ونساء من مختلفالأعمار والمشارب، من دول متعددة يجمعهم هواه الأساسي، الشعر والأدبوالفن في جوٍّ من الأُلفة والحميمية، أتابع مضيفنا يحتفي بالجميع، بتواضع فيهرقيّ، قلما يتكلم، يمنحه صمته هالة إضافية من غموض، كذلك مسحة الحزنالمتواري في عينيه.. هل هي سلسلة المعارك والعواصف التي خاضتها سفينتهمستكشفةً طريقها الأسلم بين الصخور إلى «مُبتغى» وعاه مبكراً؟.. أم أنّهبعض إرثه العراقي منذ جلجامش ومحاولة الخلود، أو ربما هو «وعي المثقفالشقي» كما أسماه في أحد كتبه؟ ذاك الذي «يشقى في النعيم بعقله»؟

الإعلامي اللبناني الشاب في الكرسي المجاور يقرأ في عينيَّ فضولي. «أعرفد.شعبان منذ أكثر من عقدين». قال بإعجاب: «إنّ هذا الرجل السهل الممتنعبئر عميقة لأسراره وأسرار معارفه الكثر في كل مكان. ساعدني كثيراً، فهوجاهز دوماً لمدّ يد العون، وخصوصاً للشباب، لأنه يؤمن بهم. رجل يتدفق بالمحبة،ويفتح ذراعيه دائماً للآخر، حتى نال وسام الصداقة العربيةالكردية».

أعجبتني عبارة: «ويفتح ذراعيه دائماً للآخر». تذكّرتُ قول مولانا جلال الدينالرومي: «أولئك الذين يملكون قلوباً مليئة بالمحبّة.. تكون أياديهم دائماًممدودة»..

ألمحُ في الرُّكن مكتبة ضخمة وغنية أهداها كاملة إلى الجامعة، جامعة اللّاعنف(أونور) AUNOHR التي ينوب رئاستها. فكرت بإعجاب في الكمّ الذي قرأهوالكمِّ الذي كتبه، فهو أكاديميّ وباحث ومفكّر وكاتب، ألَّف عشرات الكتب فيالقانون والسياسة والفلسفة والتاريخ والاقتصاد والفكر الديني، في إطارالتجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد، وانشغل منذ وقت مبكّر بقضاياالمجتمع المدنيّ والأديان، والفهم المتجدّد لقضايا حقوق الإنسان.

بالنسبة إليَّ، فأنا أحترم د.عبد الحسين. يُثير إعجابي تنوعُ ثقافته ومشاربه. خليط مثير للاهتمام، ابن النجف الذي نشأ على صوت القرآن في بيت طفولته،ممّا شكَّل أحد الروافد الروحية الأساسية في تكوينه وفي منظومة قيمه، ثم نمامعتاداً على التنوع الفكريّ في بيت أسرته التقدمية المفتوح للضيوف علىاختلافاتهم، ثم تبنّى فكراً متسامحاً لانتماء يساري، بناه بألوان قوس قزح.

فتح عقله المجبول بالحضارات ليتقبل النور الإلهي.. ويمسح الغبار الذي رُميعلى الأديان، فهو باعتراف النقاد لا «يعصرن» القرآن، بل يأخذ نفسَهُ بما فيهامن حداثة إليه، وكذلك درس الإنجيل، فوصف النصارى بـ»ملح العرب». تحدثعن النصرانية وتسامحها وتاريخها، و«كأنّ مسيحياً كان واقفاً وراءه ليعرفعدله»، على حدّ تعبير النقاد وفي مقدّمتهم المطران جورج خضر. ثم درسالبوذيّة وتعاليمها. فهمه العميق هذا، صبّه لاحقاً في كتب كـ»الإسلام وحقوقالإنسان: المشترك الإنساني للثقافات والحضارات المختلفة»، وكتاب «دينالعقل وفقه الواقع»، وكتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي».

كانت السهرة واحة حرية ومحبة، توالت الأصوات تُدلي فيها بما تحبه في عالمالشعر، شعر قديم أو حديث أو بالبدوية. فكّرت بمتعة كم افتقدتُ هذه الأوقاتفي قطاري السريع بين محطات لا تشبهني، الليلة أنا في محيطي.

شدَّني فجأة إلقاءُ شعباناستجابةً لطلب بعض الحاضرينبعض أبياتالجواهري بإحساس جليٍّ وصوت رخيم مميّز. طبيعي أن يتلو شعبان شعر ابنمدينته اليساري، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، بعد أن قضى ردحاًمن عمره يوثق بدقة وعلمية أجمل قصائد الجواهري، التي تجسد برأيه «جدلالشعر والحياة»، وجمعها في كتاب أسماه «جواهر الجواهري» بلغة بسيطةوسلسة لا يستعرض فيها ثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وليس الجواهريفحسب، بل اهتم بتوثيق عطاءات نخبة من المبدعين، كمظفر النواب وأمينالريحاني وعبدالرحمن النعيمي وعامر عبدالله وسعد صالح وغيرهم.

عرفتُ من سيرته الحافلة التي سمّتها الحركة الثقافية في إنطلياس يوم كرّمتهكأحد الأعلام الثقافية العربية الكبيرة (بيروت 2017) «سيرة تمرد»، أنه خبيرفي مجال حقوق الإنسان، واستشاري وعضو في عدد من المنظمات العربيةوالدولية، وفي هذه السيرة تلخيص لمسيرة د.شعبان وجزء من قصة حياته منذأن تخرّج في كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة (جامعة بغداد)، ونال درجتيالماجستير، وحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم القانونيّة منتشيكوسلوفاكيا.

تروي السيرة والمسيرة قصة مناضل من هذا الوطن، تمرّد على بيئته المتدينة،وآمن باليسار. حقوقي تمرّد على الخوف، وامتهن الدفاع عن حقوق الإنسان،تمرّد على التعصب، عروبي وقومي وإنساني تمرّد على التحيّز والتخلفوالطائفية، وتمرد على العنصرية. يؤمن د.شعبان بعمل الفريق، لذلك نجدهمساهماً في العديد من الكتب والمقالات المشتركة. ويؤمن أيضاً بأهمية التعريبوالترجمة انطلاقاً من مبدأ تبادل الثقافات وتفاعلها، كما أن حضوره فعّال فيالملتقيات الفكرية والمنتديات الثقافية والمؤتمرات الحقوقية العربية والدولية.

أقترب من الخزانة الزجاجية في الركن.. أتملى في شارات وأوسمة عالمية حازهافي مسيرة نضاله، توقفت أمام جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالمالعربيّ، اقتربت أدقق النظر في التفاصيل.. من خلفي سمعت صوت الشاعرةالسورية اللطيفة التي ألقت قبل قليل بعض شعرها: «شعبان هو مناضلإنساني وقومي وعراقي مغرم بالعراق»، ألم تري تلك؟ وتتبعتُ اتجاه إشارةيدها إلى حيث نُقشت بعض أبيات شعر الجواهري بأناقة أعلى الأبوابالخشبية الداكنة:

أنا العِراقُ لساني قلبهُ ودمي

فراتُهُ وكياني منهُ أشطارُ

أضافت: عراقي دفعه العشق لكتابة كتب وأبحاث حول بلاده التي أسماها«بلاد الشمس» بروح وطنية وقّادة لا تساوم في الثوابت، وهو يقول: «مُوالٍ أومعارض، لا يهمّ. فالموقف المعارض لا يكون على حساب الوطني والثابتوالاستراتيجي، الوطن هو القضية الأكبر والأهم».

يتنقّل للاهتمام بضيوفه حول مائدة فيها أيضاً من تنوعه وتسامحه، أطباقفلسطينية، وأخرى عراقية وسورية، ولبنانيّة. ألتقط رقاقة من طبق المسخنالفلسطيني، وأستمتع برائحة السُّماق، طبق فلسطيني على مائدة شعبان؟بالتأكيد ليس مصادفة. فقد عُرف عن مضيفنا على الدوام أنه كان من بينالمحامين التقدّميين، وأنه مساند لقضايا التحرر وكفاح الشعوب. وعُرف مدافعاًبشكل خاص عن القضية الفلسطينية، فكتب في مختلف شؤونها: القدس،الانتفاضة، الحرب على غزة، والعنصرية الصهيونيّة، حتى مُنح العضويةالفخرية لاتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، ولأنّ عقله الشمولي متسامحومرن، فقد ميّز بين اليهودي والصهيوني، وأشار إلى مساهمة يهود عراقيينتقدميين معادين للصهيونية في تاريخ الكفاح الوطني العراقي، تحت لواءالحزب الشيوعي العراقي آنذاك.

«لم تتناولي شيئاً»، عاتبني الدكتور بلطف. بالنسبة إليّ، كنتُ قد نسيتُالطعام، بل والمكان كلّه. كنتُ في إحدى لحظات التجلّي. كأنَّ الرجل العراقي قدفتح لي الستارة فجأة «فرأيتُ». كنتُ أراقبه.. يجامل ضيوفه ويضحك، تلتمععيناه لتعكِسا فيض انفعالاته. جليّ أنه قرّر أن لا يشيخ أبداً. الموت والحياةيكمنان في داخلنا، ففي بداية عقده الثامن مازال «شعبان» واحداً من أنشطمفكري الوطن العربي وألمعهم. يتابع بنفسه يوميّاً مجموعة هائلة من القضاياوالنشاطات. يقضي وقتاً كثيراً في السفر بين بلدان العالم لحضور المؤتمراتوالاجتماعات. إيمانه الحقيقي وشغفه بما يفعل وحماسته الهادرة لقضاياهالكبرى، سرّ نجاحه الكبير وشبابه الدائم.

أجل، استمتعتُ جداً بتلك الأمسية التي ذكّرتني بعنوان كتابه الذي أهداني إيّاهمؤخّراً: «رحلة البنفسج». صحيح لم يكن مظفر النواب الذي أضاء الكتاب علىرومانسيته المشفرة حاضراً، ولا شعره، لكنها كانت أمسية بنفسجية الرقة.

بعد أن غادرت، في هدوء ليل بيروت وظلام السيارة، بقي معي صوت قويّالنبرات ينضح بالكبرياء، وابتسامة مهذبة لا تغيب. وعينان تبثّان تأثيراً عجيباً.. تفيضان ذكاء.. وتغرقان حزناً. وجدتُني أدندن، ومازلت طربى بنغمات العودالذي زاد الأمسية جمالاً، بكلمات بيرم التونسي: «ليه يا بنفسج بتبهج وأنتزهر حزين؟».

——

روائية ومهندسة معماريةاللّاذقيةسوريا

 

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours