زياد الرحباني…لبنان زائد واحد.

بحبر / رئيس التحرير

عن قصد أرجأتُ الكتابة عن زياد، رحيله – على وجه الدقة – لحين ما تهدأ أمواج وأفواج ما كُتب عنه، وما قد يُكتب، وهذا أكيد من حيث هو واقع حال حاذق وفريد، بذي أفق مفتوح وقدر شاهق، لشخصية شائكة مثله وبسيطة في ذات العمق وأغوار فيوض جراحات وطن وحيرة لنفس بذات قلق مُجدٍ وخلّاق، روح شيّقة بسخرية تتعدى المحنة وتتفوّق عليها برغم كتم كُل ما تجرّعت من علقم كؤوس مترعات بأحزان شتى أنواع أوجاع وانكسارات وطن، وطن أبلغ ما قال فيه الأخوين عاصي ومنصور، عبر ما غنتّه الأسطورة الملائكية فيروز في ملحمة قصيدة بغداد والشعراء والصور لحظة تشدو لتعلن؛

“أنا جئتُ من لبنان من وطن..

إن لاعبته الريح ينكسرُ

صيفاً ولوّن الثلج حملني

وأرّق ما يندى به الزهرُ..”

زياد، الذي قال مجداً وسمواً في توثيق مآثر أمّه فيروز؛ “لقد تبدل العالم بعد أن تخلت أمي عن الموسيقى”، وما شاء يُضفي ليضيف – حيال ذلك – متسائلاً بتشّظيات دهشة؛ “وأيّ عالم ذاك الذي يجرؤ أن يبقى على حاله بعد أن تسكت فيروز؟ هي ليست مجرّد موسيقى، بل ميزان للروح وصوتٌ يضبط إيقاع الحياة”، زياد الذي لم يكن دبيب بداياته الإبداعية قد دَبّ في كنف الموسيقى، برغم البيت الذي ولد وترّعرع فيه، بل تماهى متسللاً في الدخول من خرم إبرة الأدب، ولكأنه جاء محتميّاً بدثار حكمة السيّد المسيح القائلة؛ “إجهدوا أنفسكم أن تدخلوا من الباب الضيّق”، وإلا كيف تجاسر ونَحت في سن مبكر من سنيّ عُمر مراهقته هوس نصوص شعرية، تجرّأ على تسميها “صديقي الله”، وليكشف عن موهبة أدبيّة مُنبئة بحقيقتها وفريدة، من قبل تعميد كامل طاقته في ينابيع الموسيقى والتأليف المسرحي، عدا سيول برامج في السياسة والإنسانية كان قد تفرّد بها وأذكى وأجاد، أثرى وأثرّ، والكلام – هنا – وبهذا الجانب المُحراب من سَفر حياته، لا يتطلّب سبباً من تلميع وتذكير وإشادة، فهو واضح، طافح، معروف كما هي عين الشمس.

أحدث زياد مع تواكب الوقت تحوّلات مثيرة – كبيرة في شكل وبنيّة المسرح اللبناني، بابتعاده عن النمط المثالي والخيالي الذي اقترن بتوجهات مسرح الأخوين رحباني، مُتجهاً صوب مسرح سياسي واقعي ينتهل من حياة ومعاناة الناس اليومية، بالأخص أبّان ظروف وأحوال الحرب الأهلية اللبنانية، وما تلاها، فيما كان – قبل ذلك، تحديداً في العام/1971 قد وضع أول ألحانه الغنائية بعنوان “ضلّك حبيني يا لوزية” مُشكلة لوامح مدخله الفعلي في عالم التلحين، وبحلول العام/1973 – وهو لم يزل في السابعة من عمره – أفلح في جني قطاف مواهبه الدفينة عبر تلحين أغنية لوالدته فيروز، في ظل غياب والده عاصي أثر دخوله المستشفى وفقدانه الوعي، في وقت كانت فيروز تستعد لبطولة مسرحية “المحطة” هي من تأليف الأخوين رحباني، فكتب منصور كلمات أغنية توافقت مع غياب عاصي المفاجئ فجاءت مهمة التلحين إلى زياد، في عبارة مركبة سانحة لهوميروس صاحب ملحمة الإلياذة، أجدُها تختصر الكثير والمثير مما قدّم وقاوم وقام به زياد من تنويعات خففت من عبء وثقل كل أزماته وطنه وذاته، وعلى مدار مراحل حياته، يقول ذلك الحكيم اليوناني – الفيلسوف الأعمى بمتن عبارته؛ “ستبقى الآلهة تختلق الآلام، حتى يكون للشعراء أناشيد لموضوعاتهم”، فيما يشاكله قول معاصر لمخرج أفلام الرعب الفريد هيتشكوك من أن “العمل المسالم في الزمن الصعب خيانة للضمير الإنساني”، لذا كان زياد هو كُلٌ من بعض ذلك، بل أبعد من مجرد رقم تسامى بالفهم والضنى والسخرية والحزن والعبقرية التي فاض وأضاء بها وانتشر، وأضاف للبنان رقماً إبداعيًّا صعبًا، عصيًّا على التجاوز أو النسيان.

ح.ع.الحميد

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours