في كل مرة يُعاد فيها النظر في إرث الفنان العراقي الراحل رافع الناصري، يُكتشف مجددًا أن هذا المبدع لم يكن مجرد رسام أو مصمم كرافيك، بل كان مؤرخًا بصريًا، وخطاطًا روحيًا، وفيلسوفًا لونيًا يحاور التراث بلغة الحداثة، ويجعل من الخط والرقم رموزًا مشحونة بدلالات ميتافيزيقية وثقافية.
بين الأحمر والترمز: حين يصبح اللون قسمًا
من بين أعماله المذهلة، تقف اللوحة التي تحمل الرقم ٧٣ كعلامة فارقة. لونها الأحمر القاني ليس مجرد صبغة بصرية، بل هو وشم وجودي، صرخة صوفية، نذر شهيد، أو قَسَم عاشق. في هذه اللوحة النادرة، أضاف الناصري حرف “الواو” كأنما يلفظ القسم بـ”واو العشق” أو “واو الفناء”، وهو الحرف الذي يبدأ به القسم العربي (“والشمس”، “والقلم”، “والليل”). فهل كانت “واو” الناصري تلك، هي باب النور؟ أم أنها رمز خفي لاسم امرأة، وطن، مدينة، أو حتى للحرف ذاته ككائن طوطمي؟
اللون الأحمر هنا ليس فقط دالاً على الدم أو الثورة، بل على العشق المحترق، وعلى صراع الإنسان مع الفناء والوجود. إنه لون يشبه قلب الشاعر حين يكتب بنزيف روحه.
أما الرقم ٧٣، فيحمل أبعادًا رمزية تتجاوز الإحصاء المادي. فهو، في بعض الثقافات، يمثل الحدس، الحكمة، والنضج الروحي. الرقم ٧ في الميثولوجيا المشرقية هو رقم الكمال الروحي: سبع سماوات، سبع بوابات، سبع أرواح. أما ٣، فهو عدد الحياة: الولادة، الموت، والبعث. هو أيضًا مثلث الإبداع، والرقم الذي لا يتوقف عن الحركة.
وحين نضع ٧ و٣ معًا، فإننا لا نحصل فقط على رقم، بل على شيفرة فنية وروحية تتجلى في لوحات الناصري. هل كان هذا الرقم إشارة ضمنية إلى سيرته الروحية؟ أم توقيعًا سريًا لعهد شخصي لا نعرفه؟ أم رسالة إلى المستقبل حول معنى الفن المتسامي؟
رافع الناصري كان أحد القلائل الذين فهموا أن الحرف العربي ليس فقط نظام كتابة، بل نظام تفكير. جعله أحيانًا نداءً بصريًا، وأحيانًا طيفًا، وأحيانًا صمتًا مكتوبًا. ولوحاته غالبًا ما كانت تخلو من النصوص، لكنها مكتوبة بالغياب، مُعَبّرة بالحذف.
وحين يُضيف رقمًا أو حرفًا، فإن ذلك لا يأتي عفويًا، بل كفعل محسوب كمن يضع ختمًا على وثيقة سرية أو يوقّع على كتاب مقدّس. واختياره لحرف “الواو” والرقم “٧٣” في هذه اللوحة تحديدًا، يكشف عن بُعد هرمسي في فكره البصري، فهو يرى العالم كشبكة من الرموز، لا كمجرد أشكال.
وإذا أردنا أن نقارن رافع الناصري برواد الكرافيك العالمي، فإننا قد نقارنه بـ بول كلي Paul Klee في حسّه الماورائي للخط والرمز، أو بـ مارك روثكو Mark Rothko في توظيفه للون كحقل روحاني، أو حتى بـ واسلي كاندينسكي Kandinsky في ربطه بين الموسيقى واللون. لكن ما يميز الناصري عن هؤلاء جميعًا هو جذره العربي ورافده الصوفي، ذلك المزيج الذي لا يتكرر.
كان يرى في الطين الرافديني لغة، وفي الخط الكوفي صلاة، وفي اللون الأزرق تركواز الذاكرة الرافدينية. إنه الفنان الذي جعل من المسمارية والمعاصرة جسدًا واحدًا.
ولعل اللون التركوازي الذي يتكرر في أعماله، يحمل أيضًا بُعدًا دينيًا وروحيًا؛ في ثقافات عدة، هو لون الشفاء والحماية والحكمة. وفي أعمال الناصري، يصبح التركواز جناح الطائر الذي لم يمت، ظل الرسالة التي لم تُبعث بعد، وميض البصيرة قبل أن تكتمل الرؤيا.
رافع الناصري، عبقري الكرافيك العربي، لم يكن فقط فنانًا يخلط الحبر بالورق، بل كان ناسكًا في محراب اللون، وشاعرًا يكتب بالحرف والظل، وفقيهًا للرمز والمعنى. أعماله، وخاصة تلك التي تخفي حروفًا وأرقامًا، ليست لوحات بقدر ما هي أدعية بصرية، أو أناجيل فنّية كُتبت بلغةٍ لا تُقرأ إلا بالبصيرة.
من أراد أن يفهمه، فعليه ألا ينظر فقط إلى خطوطه، بل أن يُنصت إلى صمته، ويتأمل تلك “الواو” الحمراء، فهي مفتاح للغيب كما للغواية .
+ There are no comments
Add yours