د. محمود عبدالعال فراج
في ظلّ الصراعات والحروب العسكرية الآنية التي يشهدها العالم خلال الفترة الحالية، كالحرب الروسية الأوكرانية أو الصراعات في الشرق الأوسط، أو النزاعات العسكرية في القارة الإفريقية كالصراع القائم حاليًا في مناطق متعددة منها، والتقلبات العسكرية والسياسية في أمريكا الجنوبية، وما يتبع ذلك من تحولات هيكلية في البنية الاقتصادية والاجتماعية في مناطق النزاعات؛ أسفرت هذه الحروب والنزاعات المتتالية عن آثارٍ سلبية عميقة على مختلف جوانب الحياة. فقد أدّت إلى انتشار الفقر والبطالة خلال فترات الحروب وما بعدها، فعلى سبيل المثال، كان ولا يزال للحرب بين روسيا وأوكرانيا تأثير ضخم وعميق على المستوى العالمي. وقد أقرت السلطات الأمريكية بأن هذا الصراع الجيوسياسي أدى إلى عواقب اقتصادية وخيمة؛ حيث تسببت الحرب في ارتفاع معدلات التضخم، وتقليص استهلاك الأسر بسبب ارتفاع أسعار النفط، والغاز، والقمح، والمعادن، إلى جانب الاضطرابات في سلاسل الإمداد وعدم استقرار الاقتصاد، وتراجع النمو الاقتصادي، وانخفاض الاستثمارات، وتقلبات الأسواق المالية على مستوى العالم، وخاصة في أوروبا، نظرًا لأهمية البلدين في القارة الأوروبية. ونتيجة لذلك، شهدت المجتمعات الأوروبية تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة.
وفي ظلّ تلك التحولات، تظهر طبقات مجتمعية تُعرف بالطبقات الطفيلية، وهو ما نحاول التركيز عليه في هذا المقال، حيث إنّ ظهور هذه الفئات كفيل بهدم العديد من القيم الاقتصادية والاجتماعية، إذ تستغل هذه الفئات الفوضى وعدم الاستقرار لتحقيق مكاسب شخصية، غالبًا بوسائل غير شرعية أو على حساب المصلحة العامة، مما يزيد الأمر سوءًا. ولظهور هذه الطبقات أسباب عديدة، يأتي في مقدمتها انهيار القانون والنظام أو تعطلهما بسبب انشغال الحكومات بالجهود العسكرية، ففي ظل هذا الانهيار، تتضاءل قدرة الدولة على فرض القانون، مما يفتح الباب أمام الأفراد والجماعات لاستغلال الفوضى، حيث تنشط هذه الفئات في تهريب السلع والاتجار في السوق السوداء، ويصبح من السهل تحقيق أرباح سريعة بطرق غير قانونية دون رادع.
أضف إلى ذلك أنّ الحروب والصراعات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي تؤدي إلى نقص حادّ في السلع الأساسية، سواء بسبب تعطيل سلاسل الإمداد أو تدمير البنية التحتية. ويوفر هذا النقص بيئة مثالية لازدهار السوق السوداء، حيث تُباع المواد الغذائية، والوقود، والأدوية بأسعار باهظة، ويتم استغلال احتياجات الناس في هذه الظروف، مما يمكّن الطبقات الطفيلية من التحكم في هذه السلع وفرض أسعارٍ تفوق بكثير قيمتها الحقيقية.
وفي أوقات الحرب وما بعدها، تعاني الحكومات غالبًا من ضعف مؤسساتها أو تزايد الفساد الإداري. وهذا الفساد يعزز ظهور فئات تستغل الفراغ المؤسسي للسيطرة على الموارد العامة، فعلى سبيل المثال، قد يحتكر أفراد أو جماعات الوصول إلى مساعدات الإغاثة أو عقود إعادة الإعمار، مما يؤدي إلى استغلال الأزمات لتحقيق مكاسب شخصية. وفي بعض الحالات، يكون للمسؤولين الحكوميين أو العسكريين دور مباشر في هذه الأنشطة الطفيلية.
كما أنه بعد انتهاء الحروب، تحتاج الدول المتضررة إلى مساعدات دولية لإعادة بناء اقتصادها وبنيتها التحتية، ورغم أهمية هذه المساعدات، فإنها تشكل فرصة لبعض الفئات الطفيلية لاستغلال الوضع، حيث تعمل على الاستيلاء على جزء من تلك الموارد من خلال الفساد أو الاحتكار، بدلاً من توجيهها لدعم عمليات إعادة الإعمار الحقيقية. وقد يؤدي الاعتماد على المساعدات الخارجية أيضًا إلى تدخلات خارجية في السياسات الاقتصادية للدولة المعنية.
بالإضافة إلى ذلك، تخلّف الحروب وراءها اقتصادات مدمرة ومعدلات بطالة مرتفعة، ويُعدّ انتشار الفقر إحدى النتائج المباشرة للمشكلات الاقتصادية التي تخلفها الحروب والنزاعات. فقد يؤدي تدمير البنية التحتية وتعطل الأنشطة الاقتصادية إلى فقدان العديد من الأفراد مصادر دخلهم، مما يدفع الكثيرين إلى هوة الفقر. كما تتسبب الحروب في تراجع الاستثمار والتنمية، مما يدفع الفئات الأكثر ضعفًا للبحث عن أي فرصة للعمل أو الحصول على الاحتياجات الأساسية. وتستغل الطبقات الطفيلية هذه الأوضاع من خلال تقديم خدمات بأسعار مرتفعة أو فرض شروط قاسية على العمالة، مثل تقديم قروض بفوائد عالية أو استغلال نقص المواد الأساسية لتضخيم أسعارها، مما يزيد من معاناة الفئات الفقيرة والمتضررة.
تتسبب هذه الحروب في إحداث تغييرات جذرية في هياكل القوة والنفوذ داخل المجتمع، نتيجة للفراغ الذي تشهده هياكل السلطة بسبب الإطاحة بالحكومات أو إضعاف الأنظمة السياسية القائمة أو تشكيل أجسام موازية للسلطة. وبالتالي، تعمل هذه الجماعات الطفيلية على سد هذا الفراغ لتصعد إلى مواقع النفوذ، مستغلة ضعف النظام أو تواطؤ بعض الفئات المتنفذة، مما يؤدي إلى استمرار الفساد واستغلال الموارد دون تقديم أي إضافة فعلية للاقتصاد الوطني.
وغالبًا، تظهر نخب عسكرية أو سياسية جديدة بعد الحروب، تستفيد من الفوضى للسيطرة على السلطة، وقد لا تمتلك هذه النخب الخبرة أو الكفاءة لإدارة الدولة، مما يؤدي إلى تعزيز الاقتصاد الطفيلي واستغلال السلطة من خلال عقود إعادة الإعمار أو السيطرة على الموارد الطبيعية، فيتكرس وجود طبقات طفيلية تستفيد من موارد البلاد دون تقديم قيمة مضافة للمجتمع.
ومن العوامل التي تساعد على انتشار الطبقات الطفيلية ضعف المجتمع المدني وغياب المؤسسات الرقابية الفعّالة، ففي ظل النزاعات المسلحة أو الفترات التي تليها، تكون الرقابة على الأنشطة الاقتصادية والسياسية شبه معدومة، وهذا الضعف يسمح للطبقات الطفيلية بالتوسع دون مواجهة رادعة، سواء من الإعلام أو منظمات المجتمع المدني التي تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على توازن القوى والمحاسبة.
إنّ ظهور الطبقات الطفيلية أثناء الحروب وبعدها ليس ظاهرة جديدة، بل هو نتيجة حتمية للفوضى وعدم الاستقرار الذي يصاحب النزاعات المسلحة، حيث تستغل هذه الفئات الفجوات في النظام القانوني والاقتصادي لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المجتمع ككل. وللتعامل مع هذه المشكلة، يجب إعادة بناء مؤسسات قوية وفرض قوانين صارمة لضمان التوزيع العادل للموارد وإعادة الاستقرار إلى الاقتصاد.
في نهاية المطاف، يبقى التصدي للطبقات الطفيلية أحد التحديات الكبرى التي تواجه الدول الخارجة من النزاعات، حيث يعوق وجودها فرص التنمية والعدالة الاقتصادية.
+ There are no comments
Add yours