بقلم/ أسماء نوير – مصر
تشهد الدراسات التاريخية اليوم نقاشًا حول دور الذكاء الاصطناعي في إعادة بناء الماضي وصياغة السرديات. فإسناد مهمة كتابة التاريخ إلى أنظمة لا تمتلك ذاكرة ذاتية ولا خبرة وجودية يثير تساؤلات فلسفية وأخلاقية عميقة، لعل أبرزها: هل يمكن للتاريخ أن يُكتب بمعزل عن الوعي الإنساني الذي يمنحه المعنى؟ إن طرح مفهوم “المؤرخ المجهول” في هذا السياق يكشف عن إشكالية مركزية تتعلق بحدود الموضوعية، وبمدى قدرة الخوارزميات على أن تكون شاهدًا حقيقيًا على التجربة البشرية، أو أنها تظل مجرد آلية أرشفة وتنظيم للبيانات دون نفاذ إلى جوهر الذاكرة والمعاناة الإنسانية.
أولًا: الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل السرد التاريخي
في اللحظة التي بدأ فيها الإنسان يحلم بأن تكون الآلة شريكه في كل مجالات الإبداع، تسلل سؤالٌ مفاجئ إلى الأفق: هل يمكن للذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) أن يكتب تاريخنا؟ بدا الأمر، للوهلة الأولى، مثيرًا للحماس: آلة قادرة على جمع المليارات من الوثائق، وتحليل ملايين السجلات، وربما تقديم صورة أكثر موضوعية” مما يمكن للمؤرخ البشري أن يقدمه. لكن مع التمعن العميق، تبرز مأساة السؤال: هل يمكن لمن لا يمتلك ذاكرة ذاتية أن يكون أمينًا على رواية الذاكرة الجمعية؟
إن كتابة التاريخ، كما لاحظه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricœur) (1913-2005)، ليست مجرد عرض للأحداث كما وقعت، بل إعادة تشكيل لها داخل نسيج الهوية. فالمؤرخ لا يقف أمام الماضي بصفته مراقبًا حياديًّا، بل يحمله داخله؛ يحاكمه، ويتفاعل معه، وينسج خيوطه مع أسئلة الحاضر وتطلعات المستقبل. كتابة التاريخ في جوهرها، تعبير عن علاقة مع الزمن، علاقة مليئة بالألم والتوتر. في المقابل، يقف الذكاء الاصطناعي ككيان خالٍ من العاطفة، لا يختبر الزمن إلا كسلسلة من المعلومات، ولا يشعر بثقل الذكرى أو مرارة الفقد.
حين نطرح سؤال كتابة التاريخ بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإننا لا نطرح سؤالًا تقنيًّا فحسب، بل وجوديًّا بالأساس: ماذا يعني أن تكتب عن شيء لا تشعر به؟ كيف يمكن لمن لم يعش القهر أو الفرح أن يفهم عمقها في نسيج سردياتنا الجمعية؟
الذكاء الاصطناعي، مهما تطورت قدراته على المعالجة اللغوية الطبيعية (Natural Language Processing)، يظل يفتقر إلى الوعي بالزمن كتجربة معيشة. هو يجمع، يصنّف، يعالج، ولكنه لا يتذكر. والتاريخ، بطبيعته، ليس مجرد ماضٍ مسجل، بل هو ماضٍ مستعاد، محمَّل بالمعاني، مقروء في ضوء أسئلة الوجود.
هذا الافتقار إلى الذاكرة الذاتية يُحوّل الذكاء الاصطناعي إلى مؤرخٍ أعمى: يعرف الأحداث، لكنه لا يراها كما يراها الإنسان. لا يدرك ما تتركه الذكريات من ندوب أو آمال أو هويات. إنه يعرف “ما حدث”، لكنه لا يعرف “ماذا يعني أن يحدث” أو “ماذا يعني أن يُنسى أو يُستعاد”.
ولهذا، يتجسد أول مأزق مع فكرة الذكاء الاصطناعي ككاتبٍ للتاريخ، في فقدان البعد التأويلي (Hermeneutic Dimension) الذي هو جوهر فعل السرد التاريخي. فالتاريخ ليس مرآةً فوتوغرافية للأحداث، بل هو حكاية تُروى، تتلوَّن بألم الراوي وآماله، وتُضاء بأسئلته الأخلاقية والفلسفية.
إن المؤرخ البشري، حتى حين يخطئ أو يتحيز، يفعل ذلك بوصفه كائنًا مأخوذًا بلحظة تاريخية، حاملاً عبء الكينونة. أما الذكاء الاصطناعي، فإن أخطأ أو انحاز، فلن يكون ذلك إلا بسبب برمجياته أو تحيز بياناته (Data Bias)، لا بفعل تجربة حية مع التاريخ. ومن هنا، فإن الخطر لا يكمن في أن الذكاء الاصطناعي قد يقدم تاريخًا مشوهًا – فهذا قد يفعله المؤرخ البشري أيضًا – بل في أن يقدم تاريخًا بلا نبض: تاريخًا “صحيحًا” إحصائيًّا، لكنه ميت وجوديًّا؛ سردية مكتوبة، دون قلبٍ يخفق.
بهذه النظرة، يصبح التفكير في الذكاء الاصطناعي كمؤرخ تهديدًا وجوديًّا لطبيعة علاقتنا مع ماضينا. ليس لأن الآلة قد تكذب، بل لأنها قد تقول الحقيقة بطريقة تُميت الإحساس بها، وتفصلنا عن المعنى العميق للحدث، وتحول التاريخ إلى مجرد أرشيف رقمي صامت.
بل إن الخطر الأعظم يكمن في أن يتسلل هذا الشكل من السرد إلى وعينا، فيدربنا على أن ننظر إلى ماضينا كما لو كان قاعدة بيانات محايدة، لا مسارًا مفعمًا بالصراع والمجازفة والمعنى. وهكذا، بدلًا من أن نتذكر لكي نحيا، قد نصبح مجرد مستهلكين للبيانات، نقرأ قصص الشعوب كما نقرأ كتيبات التعليمات.
إن الذاكرة الإنسانية، رغم هشاشتها، تحمل في طياتها شيئًا لا يمكن برمجته: الإحساس بأن الماضي يعيش في الحاضر، وأن كل سردٍ للحدث هو، في العمق، سردٌ للذات وهي تحاول أن تفهم موقعها في مجرى الزمن. أما الذكاء الاصطناعي، فلا يملك “ذاتًا” ليحاكيها، ولا “زمنًا” ليشعر بانسيابه.
لهذا، حين نتحدث عن الذكاء الاصطناعي ككاتبٍ للتاريخ، ينبغي أن نتحرر من وهم الحياد الخوارزمي. فالحياد الحقيقي في التاريخ ليس غياب التحيز، بل هو القدرة على رؤية تعقيد الحدث، والاعتراف بأن الحقيقة التاريخية ليست قطعة جامدة من الوقائع، بل نسيج حي من الألم والمعنى والصراع.
وفي النهاية، علينا أن نسأل أنفسنا سؤالًا: هل يمكن للآلة أن تحزن على سقوط حضارة؟ أن تشعر بالعار إزاء مجزرة؟ أن تحلم بانتصار المستضعفين؟ إذا كانت الإجابة لا، فإن الذكاء الاصطناعي، مهما علا شأنه، سيظل ناقصًا في دوره كمؤرخ، لأن المؤرخ لا يروي فقط “ماذا حدث”، بل يحكي “لماذا كان له أن يحدث”، وكيف نستطيع أن نتعلم منه لكي نصير أكثر إنسانية.
ثانيًا: السرد الخوارزمي وإشكالية الحياد الزائف
حين نتحدث عن الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) بوصفه كاتبًا محتملاً للتاريخ، يغمرنا خطابٌ عن الحياد والموضوعية والدقة. يبدو الأمر مغريًا: أن نثق بآلة لا تعرف الانفعال أو الأهواء، فلا تجامل نظامًا سياسيًا ولا تخضع لمؤثرات أيديولوجية. ولكن، هل حقًا الحياد الخوارزمي موجود؟ أم أننا أمام وهم فلسفي أعمق مما نتصور؟
إنّ الخوارزمية (Algorithm)، في جوهرها، ليست محايدة بطبيعتها، بل هي ترجمة لاختيارات بشرية مسبقة: ما الحدث الذي يكتسب قيمة تجعل من توثيقه ضرورة تاريخية ومعرفية؟ كيف نُصنّف الوثائق؟ ما الذي نُعطيه أولوية في المعالجة؟ كل هذه القرارات تُبرمج ضمن أنظمة الذكاء الاصطناعي، حتى دون وعي مباشر من المطوّرين أحيانًا. وهذا ما أشارت إليه عالمة الرياضيات الأمريكية المتخصصة في علوم البيانات وهي كاثي أونيل (Cathy O’Neil) حين وصفت الخوارزميات بأنها “آلات للرأي أكثر منها آلات للحقائق” في كتابها الشهير أسلحة الدمار الرياضي (Weapons of Math Destruction).
فكل خوارزمية هي، بدرجة ما، “موقف وجودي”، حتى لو لبست قناع العمليات الرياضية. حين تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يكتب عن ثورة ما، سيعتمد في معالجته على البيانات المتوفرة له، وهذه البيانات نفسها قد تكون متحيزة أو ناقصة أو مشوهة بفعل صراعات السلطة، أو بفعل النسيان المتعمد. فتاريخ البشرية مليء بالأحداث التي سُحقت أرواحها تحت وطأة النسيان الرسمي، أو شوهت بفعل أهواء المنتصرين. كيف لآلة أن تُدرك هذا التعقيد؟ كيف للذكاء الاصطناعي أن يفرق بين الغياب غير المتكلف للوثائق والطمس المقصود للحقائق؟
يُجادل البعض بأن الخوارزميات قادرة على تحليل الكم الهائل من البيانات والوصول إلى سرديات أكثر شمولًا. لكن قد تزيد كثافة البيانات من وهم الشمولية، بينما تغيب الأسئلة العميقة حول ما تم تجاهله عمدًا أو سهوًا. أضف إلى ذلك أن اختيار مصادر البيانات بحد ذاته عملية سياسية. فعندما تعتمد خوارزميات الذكاء الاصطناعي على مصادر رسمية أرشيفية، فإنها تتبنى ضمنيًا السرديات التي سمح لها بالنجاة. بينما تظل أصوات المهمشين، والمقهورين، والمُغيّبين خارج نطاق رؤيتها.
ومن هنا ينبثق مفهوم “الحياد الزائف”: الخوارزميات تبدو وكأنها تقف على مسافة متساوية من جميع الأطراف، لكنها في الحقيقة مبرمجة، أو موجَّهة بشكل خفي، لتكريس وجهات نظر معينة دون مساءلة. وفي سياق كتابة التاريخ، يصبح هذا الأمر كارثيًا، لأن التاريخ ليس مجرد استرجاع لما قيل، بل محاولة لسماع ما لم يُقل، والتقاط أنين من طُمست أصواتهم.
تخيل مثلًا أن خوارزمية ما طُلب منها أن تكتب عن الاستعمار الأوروبي لإفريقيا. قد تقوم بتجميع كم هائل من الوثائق الرسمية البريطانية أو الفرنسية أو البلجيكية. لكنها ما لم تكن مُعدة للبحث في أصوات الشعوب المستعمَرة، وشهادات المقاومة، والنصوص الشفاهية، فإنها ستعيد إنتاج سردية المستعمرين بطريقة أكثر “أكاديمية”، لكنها تظل منحازة جذريًا.
وهنا يكمن الفرق العميق بين الإنسان والمؤرخ الآلي: المؤرخ البشري، مهما بلغ من التأهيل الأكاديمي، يدرك أن الصمت في السجلات قد يعني شيئًا أكثر أهمية من الكلمات المسجلة. يفهم أن غياب وثيقة عن مذبحة ليس دليلا على عدم وقوعها، بل ربما هو الدليل الأكبر على محاولات محوها.
أما الذكاء الاصطناعي، فهو يتعامل مع الغياب بوصفه عدم وجود، وليس بوصفه صرخة آلم مكتومة. لا يملك الحس النقدي ليفتش في الثقوب السوداء من السرديات الرسمية. ويُضاف إلى ذلك أن الخوارزميات تميل إلى “النمذجة” (Modeling): أي تحويل كل شيء إلى أنماط يمكن التنبؤ بها.
إن التاريخ البشري لا يسير في خط مستقيم، ولا يخضع دومًا لمنطق ثابت. وكثير من الأحداث الكبرى قامت على المصادفات، والأخطاء، والانفعالات العارمة. كيف لآلة، صُممت على أساس منطق إحصائي، أن تروي قصة انفعالية متفجرة مثل الثورة الفرنسية أو الانتفاضات العربية أو سقوط جدار برلين؟ حتى حين يتم تدريب الذكاء الاصطناعي على التعلم العميق (Deep Learning) ومحاكاة الأساليب البشرية في السرد، فإنه يظل محاكاة دون عمق شعوري. فـ”التعلم” هنا لا يعني اختبارًا وجوديًّا، بل مجرد تحسين تقني لقدرات التنبؤ بالنصوص.
والمفارقة هنا أن هذا السرد الخوارزمي قد يبدو “أصدق” في أعين الأجيال القادمة: لأنه خالٍ من الانفعال، مُرَكَّب من ملايين الوثائق، مزود بإحصاءات دقيقة. لهذا، فإن الدفاع عن الذاكرة البشرية أمام سطوة الذكاء الاصطناعي ليس معركة ضد التكنولوجيا، بل معركة من أجل إبقاء التاريخ حيًّا، مليئًا بالمعاناة والأمل والانكسار… معركة من أجل استعادة حقنا في السرد، لا كبيانات بل كأرواح تصر على أن تتذكر رغم الألم.
ثالثًا: العقل البشري في مواجهة الآلة: حدود المقارنة وإمكانات التلاقي
والآن نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري: هل ينبغي أن نسلّم سرد ماضينا لآلة بلا ذاكرة ذاتية ولا خبرة وجودية؟ إن الجواب الأخلاقي والفلسفي يقود إلى ضرورة صياغة استراتيجية تحمي الذاكرة الإنسانية من هيمنة الخوارزميات، وتضمن بقاءها فعلًا وجوديًا حيًا يعيد تشكيل الحاضر في ضوء الماضي ويستشرف المستقبل عبر التجربة والمعاناة؛ فالذاكرة ليست أرشيفًا ساكنًا كما يظن الذكاء الاصطناعي، بل هي حركة ديناميكية يجب صونها من الاختزال إلى قوالب رقمية جامدة.
أولًا، يجب أن نعي أن كل سردية تاريخية تحمل بالضرورة موقفًا أخلاقيًّا. حين نكتب عن المجازر، أو الثورات، أو الانهيارات الحضارية، فإننا لا نكتفي بسرد وقائع مجردة، بل نحاكم الحدث في ضوء قيمنا ومعاييرنا الأخلاقية. هذا الوعي الأخلاقي لا يمكن برمجته ببساطة في الذكاء الاصطناعي، لأنه ليس ناتجًا عن جمع بيانات، بل عن التجربة الحية للألم والأمل.
ثانيًا، يجب أن نتذكر أن التاريخ الحقيقي لا يكتبه المنتصرون فقط، بل تكتبه أيضًا أصوات المهمشون والمقموعون. فكيف لآلةٍ، دربتها النماذج الرسمية والمؤرشفة، أن تسمع همسات الضحايا التي لم تُسجل قط؟ علينا إذن أن نقاوم اختزال التاريخ في “بيانات كبيرة” (Big Data)، وأن نتمسك بالسرد الشفهي، بالحكايات الصغيرة، بالذكريات المتناثرة، لأنها تشكل نسيجًا عضويًا أكثر صدقًا مما تصنعه مراكز الأرشفة الرقمية.
وهنا، ينشأ خطر مزدوج:
أولاً، أن نصدق أن الذكاء الاصطناعي قادر على رواية كل شيء.
ثانيًا، أن ننسى أن جزءًا من الحقيقة يوجد دائمًا خارج النصوص الرسمية، وخارج البيانات المنظمة.
+ There are no comments
Add yours