مملكة الحياة…مملكة الموت


 رنده كمال أبو حسن – بيروت

 لم تكن لتبدو الأمور بهذا الوضوح الذي تبدو عليه اليوم، كما لم يكن لأحد أن يتوقعَ يوماً بأن يستيقظ ويجدَ نفسَه في زمنِ يفرضُ عليه خيارينِ لا ثالثَ لهما، إمّا الحياة بكل ما لها من معانٍ وأبعاد ، وإمّا الموت بكل ما فيه من غموض وترقب ؛ وما بينهما، هناك واقع  ينتظر  إملائَه بخياراتٍ أخرى، وبمعاييرَ تتطلب الإيمان الرّاسخ بقدرة الإنسان وإحساسه بطاقة الحياة الكامنة فيه، إستعداداً لمواجهة ايّ شعور مخيف أو مُربك، بحصانةٍ ومنعة قوية داخلية.

في ظلّ هذا الشّعورِ بالخطر، قد يتساءَل البعض عن مدى قدرتهم في التمييز بين متطلبات الحياة الحقيقية وبين ما يشهدونه يومياً من إبادة واضحة لملكاتهم الإنسانية، أو لما تبقّى لهم من من شعور وأحاسيس بمباهج الحياة وإثارتها؛  تكثر الأسئلة  لدرجة الإرباك المخيف الذي يدفعُ  أحياناً الى الهروب والإستسلام  لأمرِ واقعٍ، أخطرُ ما فيه، هو إمتثال الإنسان به، وإعطائه صفةً مرادفة للحياة، بذريعة من لا حولَ له ولا قوّة طالما نحن محكومون بواقعٍ تتقاذفه السّياسات الأقوى، من دون أن يكون لها أيّ ضوابط أو التزام بقانون أخلاقي او بأيّ رادع إنساني.

بإستطاعة أي إنسان تقديم ما يكفي من الذّرائع لتبرير تقاعسه عن الحياة، بغض النظر عن قبولنا لأصحيّة  أو منطقيّة هذه التبريرات؛ طالما أنه يتحمّل نتائِجها وعقباتها؛ لكن الخطورة تكمن في التسويق لهذه الحجج وإقناع الآخرين بها حتى تكاد تكون المعيار الأوحد للحقيقة التي يُقال عنها بأنها الضّحيّة الوحيدة في هذا العالم.

  لا شك بأنّ الحياة هي نموّ مستمرّ ومنتظم ، وأن ايّ تطوّر لأيّ إنسان، هو رهنٌ بالتوجّه الذي يَختاره ما بين الحياةِ أو الموت، الخيرِ أو الشر. فبغض النظر عمّا آلت اليه الدّول الأقوى، في تنافسِها على عرش الأرض، من خلال نشر ثقافة الموت وبثّ مشاعر الخوف والانتقام والكره وعدم الثقة بالنفس، وإُخضِاع الإنسان لشروط بقائِها وتفوّقِها عبر التسويق والإعلان لكل ما يمجّد لثقافة الموت على حساب ثقافة الحياة، فإذا لم يبادر الإنسان بالسعي لأي خطوة  تساعده على تخطّىي الرّعب الملازم لوجوده والسير بإتجاه الحياة، يكون قد حكم على نفسه بالعزلة والموت. ولا بد هنا من الإشارة الى ما ذكره ايريك افروم  بهذا الموضوع بقوله “طالما أن الإنسان يكرّس القسم الأكبر من طاقتِه للدّفاع عن وجوده…او للصراع مع الجوع، فإن حبّ الحياة لديه سوف يَذبَل ويزدهر حبّ الموت”.

تثيرنا الحياة إذا تعلّمنا كيف نواجه الموت بالخلق والإبداع، وتثيرنا إذا تعلمنا كيف نواجه الحقد بالرحمة، والغضب بالتسامح، و الكراهيةَ بالحب، والتذمّرَ بقبول الآخر. فماذا لو جعلت من قلبي قابلاً لكلّ صورةٍ كما جعله محي الدين بن عربي؟

وتثيرنا الحياة أكثر إذا تعلّمنا أن نعيشَها ببساطة وفنّ وفقاً لقوانينِها الطبيعيّة وبرفقةِ أشخاصٍ يقدّرون مَعناها بَدَل أن نُمضي ما تبقّى منها مُحاطين بأشخاص يتذمّرون، ويتّجهون الى الموت من خلال تقاليد وأعراف تكرّرُ نفسها بنفسِها، وحياة تقليديّة تَغيبُ عنها الحوافزَ التي ترفعُ من مستوى البهجة والتناغم والفرح والحبّ.

في خضمّ كل هذه المعاناة ، يبقى السّؤال الاهمّ الذي يَطرح نفسَه في كلّ لحظة وهو: الى متى سنبقى متردّدين في اتّخاذِ المواقف الجريئة، وتخطّي واقعَ الموت، بالعبور الى جسرِ الحياة الذي ينتظرُ منّا تعبيده بكل ما يليق بها من فرح وحبّ، من فنّ وموسيقى وإبداع ، من معرفة وعمل خلاّق يعكس جوهر الإنسان ويعيده الى مكانتِهِ الطبيعيّة، كي لا نضطرّ يوماً لتكرار ما قاله الروائي الكبير ماركيز : “لقد انتهى كلّ شيءٍ…وبقيَ ذلك الأسى الغريب الذي لا يَعرفُه سوى كنّاسي المسرح بعد خروجِ آخرِ الممثلين”.

كاتبة وباحثة في مجال اللاّعنف وحقوق الإنسان

You May Also Like

More From Author

+ There are no comments

Add yours