إن كتابة تاريخ العراق، منذ فجر الحضارات الأولى في بلاد ما بين النهرين حتى يومنا هذا، تبدو وكأنها مهمة مستحيلة في ظل التغيرات التي مرت بها هذه الأرض عبر العصور. فالعراق، في حدوده الحالية، قد يكون في نظر البعض مجرد نتاجٍ لتوافقات القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية عقب انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ولمدة قرون، كانت هذه الأراضي جزءاً من إمبراطوريات كبيرة، تديرها عواصم بعيدة مثل إسطنبول ودمشق. هذا التعقيد يجعل من سرد تاريخ عراقي مستقل تحدياً كبيراً، إذ يتشابك مع أحداث دول أخرى وأمم عديدة.
يتناول بعض الكُتاب المسلمين تاريخ العراق من زاوية الفاصل بين “الجاهلية” وفترة ما بعد الإسلام، إلا أن العراق، بجغرافيته الغنية، كان دوماً مركزاً للتنوع الحضاري عبر خمسة آلاف عام، وهو ما يعرّض من يحاول الكتابة عنه لخطر تقديم سردية غير متجانسة. قد ينتهي الكاتب، دون قصد، إلى تحويل النص إلى ما يشبه كتالوغ سياحي أو موسوعة موجهة للناشئة.
ومع ذلك، هناك دائماً ما يغري المؤرخين لمحاولة إيجاد الخيط الذهبي الذي يربط تلك المراحل الحضارية المدهشة. هذا ما يسعى إليه بارتل بول في كتابه الصادر حديثاً باللغة الإنجليزية بعنوان “أرض ما بين النهرين: تاريخ العراق في 5000 عام”. يرى بول أن العراق، الذي استخدم اسمه منذ القرن السادس الميلادي قبل ظهور الإسلام، كان دوماً مركزاً للحراك الحضاري، وممراً لجميع الإمبراطوريات الكبرى في الشرق.
خلال الألفيات الماضية، كانت المدن العراقية مثل أور وأوروك وبابل ونينوى وبغداد، على رأس المدن الأهم في العالم. كما أن سلوقس، الذي ورث شرق إمبراطورية الإسكندر المقدوني، بنى عاصمته سلوقية على نهر دجلة شمال بابل، ليتحول العراق إلى جسر بين الشرق والغرب في عهد الحضارة الهلنستية، التي اشتهرت بالتسامح الديني والشغف بالعلوم.
يربط بول تاريخ العراق بإنجازات حضارية هائلة نشأت على هذه الأرض، مثل أول المجتمعات الحضرية المتقدمة مع السومريين في الألفية الرابعة قبل الميلاد. ومن هنا خرجت مفاهيم الملكية، وبناء المدن، والقانون المكتوب، والدبلوماسية، والملاحم الشعرية، وأساسيات المحاسبة، واختراعات مثل العجلة والقارب الشراعي. حتى الأدب العراقي القديم، مثل ملحمة الطوفان، ألهم كتاب العهد القديم. وشهد العراق معارك تاريخية حاسمة، مثل صدام الإسكندر المقدوني مع الفرس، وحروب الرومان مع البارثيين، وصولاً إلى الصراعات اللاهوتية في الإسلام.
يقدم بول في “أرض ما بين النهرين” سرداً متماسكاً رغم تشابك الأحداث وثراء التاريخ. يتناول حكايات شخصيات بارزة مثل جلجامش وهارون الرشيد وهنري لايارد، مبرزاً تأثير جغرافية العراق المسطحة، التي جعلت منه ممراً للعابرين ومحوراً لتلاقي الثقافات والحضارات. كان العراق بوتقة انصهرت فيها الأفكار والأديان والأعراق على مر العصور، رغم أن هذا التلاقح لم يكن دائماً سلمياً.
غير أن بول، في سرده الطموح الذي يغطي خمسة آلاف عام، يتوقف بشكل مفاجئ عند لحظة ثورة 1958 التي أسقطت المملكة الهاشمية، دون الغوص في تفاصيل أكثر عن العهد الجمهوري أو الغزو الأميركي في 2003. يفتقر الكتاب هنا إلى ربط تلك الحلقات الحديثة بالسرد التاريخي، مما يفوت فرصة هامة لتشبيك الماضي بالحاضر.
ختاماً، يقدم بول عملاً يستحق الثناء رغم بعض الهفوات، محاولاً إلقاء الضوء على تاريخ العراق العريق، الذي شكل بعمق وجدان الحضارة الإنسانية.
+ There are no comments
Add yours