أدركُ -تماما- شساعة الفرق ما بين “حكمة الخطأ ” ومدى الاستفاده من نواتجه في منحى ما تقصّدت إليه عبارة الشاعر المصري الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي في مفتتح قصيدته “مرثية لاعب سيرك “من ديوانه “مرثية للعمر الجميل”،وما بين تشخيص وتمحيص”حكمة القراءة الإرتجاعية”في توثيقات ما أستفهم وتوصّل إليه الباحث والمُفكّر الكبير د.عبدالحسين شعبان في مُتسقات وتحليلات ومجريات عُمق ما حوى وأستهوى كتابه الشائك والشيّق هذا-رغم ما يحمل من آسى حيف ولذوعة مرارة،كونه الساعي لفضّ الإشتباك-المتوقع والمفترض- ما بين التحريض ودواعي الترويض على أهميّات -لا أهمية واحدة- وضرورات القراءة الراهنة-منها،على وجه الدقة وسواند القصد- من حيث كون القراءة الإرتجاعية هي المنهل والسبيل الإستشرافيّ الأمثل في كشف وفهم المستقبل وفق ما يجب وينبغي النظر إليه بأكثر من زاوية وأكثر من عين،لا مجرد بحث في الماضي بغية الإستفادة- منه فحسب-.
بدلاً من مقدمة
من هنا ..نراه يرى عبر متون أقسام كتابه*الأربعة،الضّام لعنوان عام ؛”كيسنجر وبريجنسكي ..ترست الأدمغة ..والإستراتيجية الأمريكية” محفوفاً بمقدمة،إستعاضها الباحث بتسمية “بدلاً عن مقدمة”،تلك التي أتسعت لتلخص-بحكمة وبراعة دراية وحُنكة إحتكام- أهمية وقيمة المعلومات وخطورة التقديرات والاستنتاجات الرابضة في مجمل ما لعباه من دهاء مُكرٍ ومكائد خبرات في خوض أدوارِ تنظيرية عملية وعلمية واسعة بالقنوات السريّة والسياسة الدوليّة ومنعرجاتها ودهاليزها،ُكلّ من هنري كسينجر1923م- 2023م”من أصول ألمانية” وزبيغينيو بريجنسكي”1928 م-2017 م “من أصول بولونية”،على منوال ومن خلال نوافذ ومنافذ ما تمتعّا به الأثنين وتفرّدا على نحو متداخل،بعد لمعان وسطوع أسمهما بارزين أبّان سبعينات القرن الفائت،على تخوم وعموم الساحة السياسية العالمية،بشفاعة وكفاءة قدرات فائقة عززّت من بلورة مقترحاتهما في المجال النفسي والعسكري،حين كانا-بحسب تلك المقدمة التي أستفتح بها د.شعبان كتابه- يعملان ويُسهمان إلى جانب صاحب القرار”الرئيس الامريكي” للحدّ الذي يُشكّلان فيه مكامن”العقل السياسي” للإدارة والإرادة الامريكيّة،إلى جنب كثافة وحصافة معرفتهما بالمطبخ السياسي،لعلني منه والسّري،وعن مدى قوة تأثيراتهما،في مجال ومجريات كافة قضايا الصراع الآيديولوجي،-بالقصد والتحديد- ضد المعسكر الاشتراكي،وغيرها من متغيرات وتحديات وجسامة أحداث من تلك التي شهدها العالم خلال الخمسة عقود الماضيات،وتناوبتهما على حمل حقيبية وزارةالخارجية الامريكيّة،ومستشارية الأمن القومي،ومن ثم العمل بهذه الإتجاهات حتى بعد مغادرة موقعهما الرسمية،بعد أن ظلا يلعبان أدواراً تنظيريةً تتضح في النُصح والإرشاد والتصويب لما خَططا ورسَما وتوقعا من قبل.
التأريخ والفلسفة
تتجلى فحوى قيمة الكتاب هذا بنهجه العام،تسليط الضوء الكاشف على بعض آراء كيسنجر وبريجينسكي،أفكارهما،رؤيتهما،ممارستهما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية،عبر تلك القراءة الإرتجاعية-النقدية لتلك العقود المنصرمة،آخذاً بعين الاعتبار مديات تطوّر وسائل وصيغ الدبلوماسية،ومدى إرتباطها بتواتج الثورة العلمية-التقنية التي غيّرت من عقل وشكل العالم،على نحو ما هو فاصل وحاصل في عموم مجريات عالم اليوم.
كما وحفلت تكشف أقسام الكتاب عن ثقة الترابط الوثيق الذي تتبنّاه السياسة الامريكية،متمثلاً بطبيعة عقلها من خلال”تروست الأدمغة”(مجمّع العقول)،والذي يعني في أعتى غاياته مهمة تجسير الفجوة ما بين أصحاب القرار السياسي،وما بين كفاءات وخبرات الاكاديميين والمثقفين المتعقلّين في ميادين حكمة الغرب بحسب فهم منطلقات ومعطيات الكاتب والمفكر “بيتراند راسل”،في شتى مجالات المعرفة، من أقتصاد/اجتماع/ثقافة/علم النفس،وبما تحتاجه البشرية في مختلف نواحي الحياة.
فيما تواثبت جميع أقسامه-بشكل وآخر- مهمة التعريف بمن هو كيسنجر؟ومن هو بريجنسكي؟وما مدى غواية الموقع،ثم أهم وأثرى وأجدد مقابلتين معهما،فضلاً عن دور ترست الأدمغة في صناعة السياسة الخارجية، ووضع إستراتيجيتها،ومهام انضاج نظريات من شأنها مواجهة أعداء امريكا،وليكاد يعرج الباحث عن علاقة بريجينسكي بنظرية ضابط الإيقاع العالمي،وعن الدور الامريكي المعظّم/أوراسيا وقلب العالم/تحوّلات ما بعد الحرب الباردة/الإسلام بين”هلالين”/الهيمنة والنموذج/أوكرانيا والبطن الرخو،فيما أستفرد القسم الرابع المنضوي بعنوان”كيسنجر مستعادٌ:القوة والدبلوماسية،وبما يختزل تنظيراته في عدد واثق ومؤثر في مجال التفاوض والسلام والسياسة من مسارب منعطفات فهم راسخ وجدير لنواحي التأريخ وشواغل الفلسفة في معايير ومهام تقويم مسارات وطرقُ الوصول المثلى صوب جُلّ غاياته الكيسنجريّة،تحت طائل أي منحى من تبرير،وأبعد حال من أدنى وأوهى أحتمال.
التفاحة الناضجة
يجدر أن يَذكرُ ويٌذكّرُ الباحث عن نيل كيسنجر جائزة نوبل للسلام في العام/1973،ولا يكف عن سوق الإشارة حول منحها الذي جاء بسبب وفعل إجراءاته المتعلّة بالتفاوض حول وقف إطلاق النار في حرب أمريكا على فيتنام،وكان هذا الخبر- الحدث ق أثار الكثير والمثير من الجدل والإعتراض،حتى أن عضوين من اللجنة الخاصة بمنح الجائزة أستقلا سخطاً واحتجاجاً جرّاء.
أمام كل هذا وذاك يتثابر رصد وحصد الباحث فيما يخص خواص أهم النظريات التي سادت في الحرب الآيديولوجيّة-حينها-،ليُشكّل مصداً في تثمين و تعميق أثر قوة التأثير الناعم من داخل الكتلة الاشتراكيّة-مثلاً-،كما يعرج ويُفيد بالتذكير حول نظريات بناء الجسور “بضائع/ سلع/ سياحة” وغيرها من نظريات / المجتمع الصناعي/ التقارب والالتقاء/ المجتمع المزدهر والمرفّه/ البيان اللّاشيوعي/ تفريغ الآيديولوجي/ونظرية التكامل والتدرّج” وغيرها من شواهد التلويح ،أسهمت في تحقيق أقصى غاياتهما،بما يتماثل ويتقابل مع جميع وسائل الحرب النفسية الناعمة الاكثر خبثاً وإيلاماً للطرف المستهدف و المقصود،من تلك التي جاءت نتائجها نهاية ثمانينيات القرن الفائت،تجلّت بالإطاحة بالاتحاد السوفياتي،حيال التماع دور امريكا فيما عُرف ب”حرب النجوم”،التي خصصت لها تريليونين دولار،وهذا لم يكن يصمد ويقاوم أو مجرد أن يتوقعه القادة السوفيت ،الأمر الذي هيّأ لإسقاط التفاحة الناضجة” بالاحضان،من دون حرب كانت قد تأخذ بالبشرية أجمع نحو الفناء،أو هكذا يصف الباحث كيف تداعّت حبّات المسبحة الواحدة تلو الأخرى،على أثر إنهيار جدار برلين في التاسع من تشرين ثانٍ العام/1989،لتتساقط البلدان الإشتراكيّة كما تتساقط أحجار الدومينو.
عولمة الثقافة
شاء وأن شهد العالم تطوّرات مذهلة ومهولة تحت راية وظلال العولمة بنسقيهما السلبي و الايجابي،ليس في مجال العلوم كما يذكر د.شعبان فحسب،بل شمل أنواع متعددة،منها – يذكر،مصنفاً-عولمة الإرهاب/ عولمة العنف و”الشركات العابرة للقارات وما فوق القومية”،فضلاً عن عوالمة الثقافة،كذلك عولمة حقوق الإنسان و عولمة العلم والتكنولوجية و”عولمة الإعلام”،وتلك هي قضايا مُلّحة وجوهرية،باتت تهز ثقة حاضر البشرية وُتوهم مستقبلها،عبر تكهنات ومحكات وتطلعات الثورة الرقميّة ونواتجها في مجالات دهاء الذكاء الاصطناعي،وغيرها من رواسخ وتلويحات ما نحن قادمون عليه- لا محال- ،مستوضحين صدق معادلة،ربما أضحت من البديهيات،ترى بأن من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة، سوف يرى الحاضروالمستقبل بطريقة خاطئة هي الأخرى.
يروق لي-بعد هذا- أن أستحضر-هنا- ما دمنا في حومة التركيز و التحفيز على أهمية وضرورة القراءات الإرتجاعية في مناخات وفضاءات ما هو حصل ،وما تواثب ذكره في تحوّلات الثقافة في كنف العولمة،ما كان قد تمّ تناوله وتداولّه من قبل”جورج أورويل ” فيما يتعالق وبعض الأفكارمن تلك التي تقع في دائرة” الحماقة”-على حدّ تعبيره-،من حيث يُصعب تصدّقها من كان مثقّفاًأو من يدانيه مثل هذه المنزلة،زاعماً “أي اورويل” بأن الإنسان العادي لا يمكن أن يكون بهذا الدرجة من الحمق،مُعلّلاً بقوله؛”يبدو سجل مثقفي ومفكري القرن العشرين مروّعاً بشكل خاص بهذا الشأن، فنادراً ما تجد ديكتاتوراً في القرن العشرين يقوم بالقتل الجماعي من دون مؤيديه من المثقفين”.
رسالة البروفيسور
أراني وقد توقفتُّ -مليّاّ-عند مقدّمة هذا الكتاب مستنهضاً منها ما شاء ينفع لهذا التقييم والعرض،كون ما حوت بقية الأقسام من ثراء معلومات وإثراءات طرح غاية بالدقة التصويب،والمنهجيّة والموضوعيّة التي تتسم و تتجواهر بها كتابات المفكر الموسوعي والباحث التنويعي-إن صحّ الاشتقاق- في ترسيم طروحاته،وتدعيمها بروحية وطاقة حيوية،تسشعرك بطراة ونداوي نبضها وتتحسّس متعة كوامنها،وعلى نحو واضح وعميق،حتى في أشد حالات الالّتياع والتأسي وعلى أعلى درجات الاحساس بالمرارة ونوبات الحزن،وتلك -لعمري- خاصية نادرة،تتهيّب به وبشخصه وأنساق كتاباته،في عموم تعددّ اختصاصاته التي عُرف بها،فهو لا يتوانى في تعضيد منجزاته وبحوثه بما يتناسب وثقة تعزيز حرصه وتأكيد دقة معلوماته من خلال مسارب أقوال ومعلومات من قبل باحثين وأُناسٌ تقُاة-ثُقاة لهم نبل صدقهم وثقل جدارة أرثهم وعمق أثرهم.
في هذا الكتاب-الوثيقة والحقيقة-السند والمرجع لهذه الحقبة، تسطع وتسمو،تُدعم وتُديم الرسالة المطوّلة والمؤرخة في 21 حزيران/ يوليو2022،التي خصّ بها مؤلف هذا الكتاب البروفيسور العراقي الراحل الكبير طارق يوسف إسماعيل إستاذ العلوم السياسية في جامعة “كاليغيري-كندا”صاحب المؤلفات الكبيرة والعديدة في اللغتيّن العربية والانكليزية،حتما ستطول-هنا-قائمة إبراز أبرز منجزاته وجهات الإصدارالعالمية والاكاديميّة المرموقة التي تبّت نشرها وإعتمادها مناهج بحث في عدد من الجامعات الكبرى في الوطن العربي والعالم،تلك الرسالة الحصيفة التي تحدّث بها قبل وفاته- حول شخصية كيسنجر وبريجنيسكي،كونه “أي البرفيسور”كان على معرفة قربية ووثيقة منهما ،ولفترات غير قصيرة،حيث كان-ايضا- قد درس على أيديهما،وكثيراً ما تحدّث معهم وتحاور في عدة قضايا ومحاور،خاصة بما يتعلّق بموضوعات الشرق الاوسط،وبالاخص مع بريجنيسكي.
تنويه:
أجدُ ضرورة تأريخية مُلّحة تتعلق بواقع التذكير حول التلميحات التي أنتهت أقسام الكتاب الاربعة،والتي أختار لها د.شعبان عنوان “إضمامتان” هي؛”1- بصمة”الثعلب العجوز” يشير بها د.شعبان للمقالة التي نَشرها بُعيد رحيل كيسنجر بنحو أسبوع واحد،في جريدتي الخليج(الامارات)والزمان (العراقية) في 6 كانون الأول/ديسمبر 2023،
2-رسالة خاصة من البروفيسور طارق يوسف إسماعيل “هنري كيسنجر وزبيغينيو بريجنيسكي كما عرفتهما”،مؤرخة- كما أشرنا سلفا- في 21 حزيران/ يوليو2022.
اشارة ؛*الكتاب صادرعن دار الرافدين ببغداد-شارع المتنبي أغسطس- آب/2024،لوحة الغلاف من أعمال الفنان عمران القيسي
+ There are no comments
Add yours